الجمعة، 11 مارس 2016

شعر / عن الطفلة باريـــــس !


عن الطفلة باريـــــس!





باريس على مرمى حجر، ومرمى طيش ونزق!. لباريس عيونٌ زرقاء، وشعرٌ رمادي، وللخمر على شفتيها مذاق العنب، لها قرطان متلألئان، وعنق طويل يوازي كفِّ البحر، لباريس قدمان تضربان في صحرائنا الكبرى، وسكارى ينامون في الضوء، يدقون عنق الليل بزجاجة كونياك معتقة، لها معطف فرو يتهدل بارتخاء، فوق الأكتاف المتعبة من العشق، لها نرد الشهوات، والراين ـ بطوله الفارع ـ والشرفات الفاغرة أفواهها في عيون الماء الأزرق، لها نافذة اللوفر المُطلة على العالم، وقبعة بونابرت، ومومياوات قابعة في صمت!

لباريس أجساد طرية، تتشكل كل صباح، كالخبز الفاخر، والبن المنكَّه، مصنوعةً من هوس الصلصال المجنون، تتمايل في غنج الماركات والعلامات المسجلة، لها شانيل، وبورجوا، وإيف سان لوران، وشارع إليسا حيث العشق حكاية كل صباح ومساء، لها رائحة السجائر المنطفئة بلوعة، في رماد الأجساد المحترقة غربة ً، وأجنحة من ضوء، ترفل حتى شواطيء جنوب المتوسط، تجوب الصحارى، وتلتهم في خزانتها كل المنافي.

في باريس يستيقظ الإبداع على المقص، وخياطة الفساتين، وتأليه الأجساد الناحلة، والقبعات الممهورة باسم كريستيان ديور، وينام على زجاجة عطر فرنسية، تتصدر بأشكالها الغريبة، أخبار الصحف العالمية، لا تعرف باريس السكاكين الخشنة في بلادها، ولا يحتمل دلالها أفلام الرعب الحمراء، ولا يستوعب صدرها النافر فكرة الاعتداء!

لباريس ماضٍ، حاضر الترف، كحلوى ترافل، أو سوكسيه، يرفس بقدميه حرية الشعوب، ويحتل المدن الغارقة في سبات الجهل، ليقول لها بونجور، هذا عطر فرنسي فاخر، وبعض رذاذ النازية، ثم تغرف بيديها الغضتين ما تشاء من أرواح، وتترك للإبداع مشيئته، في صنع حلوى المقاصل، والمشانق، و تشكيل عملات جديدة، و أحكام الإعدام، من فئة عرب.

نسيتْ باريس ذاكرتها ترفل، في عقول السائحين، لتمخضَ في قلوبهم حرقة وأنيناً، وتمخرَ في عباب الذكرى، صور ملايين الموتى، الذين عبرتْ ـ فوق أجسادهم ـ سيدة معطف الفراء، وريش الطاووس المنفوش، لا يمحو الشّانزليزيهْ من عقل سائح ذكرياته، ولا يمنح الإليزيه لرؤسائه سوى زهرة "لا تنْسَني".

وكعروس أوروبية تتقدمُ منصة الكهان، وتسردُ التاريخ في طرحة فستان، يقول الكاهن في قسم العروسين: لا تتركوا صبية، ولا طفلاً حياً، وإذا عاد عسكري منكم بأسير عربي، فالجلد مصيره، ويمضي مونتانياك في تطبيق الوصية الشرهة للدم، فيطلق قطعان الجنرال لاموريسيير وراء كل جزائري، ومن قبله، وراء كل عربي تعطرتْ باريس بحناء داره!

لباريس أنيابٌ دموية، تقضم الأطفال، ليسبتوا في بطنها، وللرازيا طعم الشكولا الفرنسية، ولجان سارتر قميصُ براءة أبيض ـ تلقاء كل من عذبهم غنج باريس، وهوى الطفلة المدللة، له الصوت، وله الإنسانية، وله الحقيقة التاريخية..

هوامش
- اللوفر: متحف فرنسي يعجُّ بالآثار والمسروقات التي جلبها بونابرت من مصر.
- الراين: اسم نهر فرنسي.
- شانيل، بورجوا، إيف سان لوران: علامات عالمية مسجلة لأسماء عطور ودُور أزياء فرنسية.
- إليسا: شارع مشهور في باريس أُطلق على حبيبة الشاعر لويس أراغون.
- كريستيان ديور: أشهر دار أزياء فرنسية.
- ترافل، سوكسيه: حلوى فرنسية مشهورة.
- بونجور: تحية فرنسية.
- القسم: حقيقة تاريخية حين كان لبعض الكهان دورهم في حث الجيش الفرنسي على إبادة الجزائريين.
- مونتانياك: الجنزال الفرنسي الذي له تاريخ أسود في مجازر الجزائر.
- الجنرال لاموريسيير: منفذ جرائم مونتانياك.
- الرازيا: نظام تم تطبيقه لتمويل الجيش الفرنسي من قوت أهل القري الجزائرية بعد نحرها بأهلها.
- جان سارتر: فيلسوف فرنسي له مقوله شهيرة "من يمسح عارنا في الجزائر".
- الشّانزليزيهْ: شارع فرنسي مشهور بجلب السواح له.
- الإليزيه: قصر الرئاسة الفرنسية.
لا تنْسَني: زهرة نادرة زرقاء لها عدة أسماء ويقال إن مجموعة "فرسان الهيكل" التي اشتهرت بوحشيتِها اتخذت الزهرةَ رمزًا لها ـ خلال احتلال القدس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق