الأحد، 15 يناير 2017

رسائلي المسجاة على أرصفة البوح







 لدي غيوم من  الأسئلة ، لأُمطر بها  قلبي ، و أحشوها في وسادتي ، ثم أجعلها تستغرق في السبات بانتظار سياسي يخرج إلينا على الهواء ليجيب عنها ، لكني  في الصباح ــ وبينما أتصفح القنوات الليبية  أتعثر بظلي ، و أتذكرهم بوجوههم المخلوعة  عن الشعور بنا ، أقددُ الإجابات على مقاسي الصغير ، في حيلة مني للهروب الكبير إلى الشارع ، إنه الهروب من الخيال والوهم السياسي ، إلى واقعية الشارع ، إلى فانتازيا الشعب ، ودراما الحياة اليومية ، إلى طوابير مملة  كالأسئلة الطويلة ، المعبأة بالتوق ، والانتظار ،  إلى طوابير الخبز ، و طوابير البنزين ،  طوابير المصارف ، وطوابير الكيروسين ،  طوابير النازحين ، وطوابير المهجرين ،  طوابير المسافرين ،و طوابير فاقدي الأطراف  وطوابير المقبرة  ،الترجمة  الواقعية لنتائج  الأوليغارشيات التي تحكمنا ، الطوائف الفكرية  التي استمرأت بشراسة ، وتمددت تمدد  داعش في بقع النور ...

لا أريد النوستالجيون في هذا التوقيت بالذات ، لأني لا أحن إلى عصور جهلي ، ولا إلى التواريخ الراقدة تحت التراب  ،لا أحن إلى التسميات ، والقبور ، ولا إلى تغيير العلم ، والنشيد ، أنا أحنُّ إلى حاضر مسالم ، متصالح مع نفسه ، أحنُّ إلى وطن يحتويني مع غيري ، أقبل به ويقبل بي ، لكنه لايلفظني نحو شواطيء غربة  سئمت من الإبحار إليها .

لدي أرشيف اسمه عبير الورد ، يدندن رسائل الحب ، ويوثق  كلمات الحرب ، يفتح نوافذ النور ، ويغلق أبواب الظلام ، كلما شرعتُ بفتح إحداها انبثق طائر عنقاء ، و خرجت  غيمة من سجون سرنا ،  فسافرت  حرة طليقة ، فوق هذه السفوح ، والهضاب ، والجبال ، لتمطر الحب ، وتكتب الآم  القلوب المتعبة ، التي أخذها الليل ، وليمة لأحزانه ، ليكفكف بها دموع وحدته ، وشراسة ظلمته .

 عبير التي عشقت  عيون الورد ، اجتاحتْ مسافات الليل الذي تقيأ كل شيء ، متخليا عن السبات ، والنوم ، والراحة ، والنجوم النائمة بين كفيه ، ترك القمر يتهجد لوحده قيام السماء ، وهالي يبحث عن مكان  الجوزاء ، لعله يصيب منها ضربة حظ ، تضع أعشاش الطيور المهاجرة بين كفيه ..

الليل والنهار وليبيا ، رحلة الله المستدامة في كوننا الصغير ، كلما خلخل الوجود ليبيا ، تخلخل السكون في العالم ، وتغيرت إحداثيات السماء من أجلها ، كلما صبَّوا في قلبي اليأس والبأس أشرق صباحي على صبي يلعب قرب بابنا ويغني نشيد الاستقلال : إننا يا ليبيا لن نخذلك .
و لن يخذل الله ليبيا الراكعة في محراب عبادته ، والمتوازنة في سلوكها العقائدي ، والصائمة متى صعد حجيجه ــ جلَّ وتعالى علاه ــ إلى عرفة ، لن يتخلى الله عن ليبيا ذات الوجه الصبوح ، والروح الودود ، الرحيمة ، المحبة للمصطفى ، العابدة ، الساجدة ، الراكعة له وحده وليس لسواه .

أستمرأت رحلتي مع عبير الفاتنة ، حتى بدوت طفلة ، تغزل على منوال الحب كلماتها ، وتتخيل حبيبا يصعد قلبها ، و يتسلق على  شعرها ، ليصل إلى النافذة ، ويقبل يدها التي خطَّت الورد ، ونثرت أوراق الجوري ، و تركت رائحته كأريج وسمعة ليبيا ، منذ عبور هيرودوت ، وحتى استحضار أرواح الفلاسفة في رسائلها ، هايدغر ، وأفلاطون ، و هيغل ، و أرسطو ، و سقراط ، و سوارين كيركجارد ، وبول ريكور الذي جعلني أعيد ترتيب أوراقي الثبوتية .

لقلبك البعيد الغريب كل السمو ، والنبل ، رذاذ الورد ، ورائحة الياسمين ، ونباتات العتمة التي عرفتها من خلال قراءتي لنصوصك السردية ومقولاتك الفلسفية ، عرفتك كيف صادقتَ أشياء المكان ، وأكتشفت في روحك مفهوم الاغتراب حين يعزلنا الزمن عن مكونات المكان ، ويتركنا نتوحد مع لغة الظِلال ، ولغة الجدران ، نتذوق وبال الفقد ، ثم نكتب ونمضي بالدواة والقلم ، وكأن فلسفة الوجود ، تترجم الزمن في السرد ، وهو ماتبقَّى من بقايانا ، في هياكل اللغة ، اللغة الكائن الهلامي الذي يعيش فينا ، اللغة التي تقولنا ، تتكلم قلوبنا ، عقولنا ، هلام الروح يا ريكور ..كنتُ قرأتها في كلامك ، وتركت التأويلية تفسرني ، تفسر العالم في مواجهة النَّص ، حتى تحولتُ لكائن إيكولوجي ، يصادق الجمادات ، ويؤنسن نافذته ، وكتابه ، وكرسيه ، وفناجين قهوته ... 

و إذ أسرد الجزء المتبقي من وجعي في هذا الجزء ، أستعيد أنفاس الورد في روحي ، و أغادر لأجزاء روائية تتسع لها مخيلتي ،  أبادر إلى وطن أحبه حتى بلغ مني العشق مبلغه ، كان حبيبي في نصوصي ، وكان قصائدي المسجاة على أرصفة البوح ، كان نافذتي نحو عالم جميل أرنو إليه ، كان ندائي الأول والأخير ، يسمعني ، ويوميء لي بالإيجاب ، الأوطان لا تخذل من يحبها ، و لاتتخلى عن أحلامها للعابرين فوق أوجاعها ، الأوطان التي دخلت غرف الانعاش عادت إليها الحياة ، وعاشت ، وهبها أكسجين الحب فرصتها ، وهانحن أولاء نهب ليبيا كل مالدينا ، وقتنا ، وحبنا ، وقلوبنا ، نهبها العمر ، والسمعة ، العقل ، والقلب ، وديمومة الحياة ، نحن الذين سنموت ، لكن المدن والشعوب لاتموت ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق