الثلاثاء، 8 مارس 2016

سرد / من ملحها بعثني الله أُنثى

سرد / من ملحها بعثني الله أُنثى!










• أنا لا أتكئ على تاريخي لأنسج ظلاً وصورةً جميلةً تتكلمُني، أنا أنحتُ في ديمومة اللحظة، وأغرز أسنان قلمي في جلد الزمن، لأنبش بأظافر حرفي معاقل الألم في بلادي، أمسك بزمام مشهدٍ هاربٍ من العتمة، أو تاريخ فرَّ من فزع الصيرورة، أو وجه ضاع من شتات الحرب، أطارد الأخبار المُرة، وأشواك الحديث الموخزة، لعل نحيب مدينتي يكفُ، فأشجُّ جمجمة الظلام بفأس حضوري، وأذرأُ عذابات ليلها ببياض ملحها، وبما أوتيتُ من قسوة ٍ أواري سوءة الوقت على وجهي، بابتسامات أهبها ليائسين خانهم عقرب التوقيت، أو ألاحق أرامل كفين قدورهن، وارتحلن بدموعهن إلى صمت المقبرة، أدفن جراحي بلا رحمة ٍ في ذروة الرماد لأبعث طائر عنقاء من روح ثكلى تنتحبُ ، وفي الليل أرفعُ دثار الصبر من على وجهي، وأسدُّ رمق السؤال بحجر الحقيقة، ألقمه شذرا، وأسلب من كينونته أقباس تمرد وتحدٍ وعنفوان!

• كعجوز هرمتْ من شيخوختها، أُقدد ـ في وضح النهارـ أحزان غيري، أنشرها على حبل غسيل من نقائي، أهب بياضي للقلوب المكلومة مثلي، المُتلظاة من سقر الساسة، أمنحهم أملاً، وأهدر دمعي كرمى لأعينهم، لم أقطف عناقيد اشتياقي بعد لبلد آمن، ولم أُعلق خيط طيارتي بأصابعي المحترقة وجعاً من كتابة أسماء الشهداء، ولم أطف بعينيِّ شوارعنا لأحصي عدداً وبدداً أعمار الراحلين من زواياها، والمغادرين لحاناتها، والمهاجرين من بيوتها، ولم أتفقد الورد البلدي النابت قرب جذوع نخلها، لأرويه بمغازل الدمع البنغازي المتواصل رواء، ماء ودماء، يغسله الملح، وتذيبه أنداء النهار الصامدة في شجاعة لا تخنع.


• كوردةٍ جورية أمنح الأشواك حق الامتياز على أغصاني، والحياة بين أحضاني، وحين يغمرني لوني الأحمر في الحب، لا أملك سوى قواميس وريقاتي أبعثها مهداة على صفيح الشوق، و أعبر بأحمري القاني مساحات القلوب الميتة من عجرفة الشعور، أخضبها محبة، وأملأ وجنة جفائها تراتيل من أقباس فردوسي، أُمدد في بقاء إنساني كلما طالني الظلام القادم نحوي، لا أنتظر أن يكافئني أحد على عطري، أو يمنح نفسه حق البقاء على غصني، فالورد مني، والشوك من منابتي وجدراني، وبكل سعادة يسرني منح حياتي، ولا أبالي إن كنتُ أطأ على معقل أحزاني، هكذا أنا، وهكذا بنغازي العجوز التي ربتني بحبٍ، ربيتُ فيها وعاداتها منبع إلهامي وعاداتي!


• كأيقونة عشق، يا كومة الملح، تبعثين الطعم، والمذاق، اللون، والحياة، حافية أنا في طرقاتك، أسير على تربة ذراتها من ذهب، أغمر وجهي في طينك الأحمر كل صباح، أطالع وجه برنيق كل صباح فيك، أغمس أشعاري في فناجين قهوتي، أتذوق بعنفوان مذاق الأحاديث الشهية الطعم، من بيت لبيت، مزيج الجنون، وعظمة التاريخ، وغموض الملامح، أراك في روحي، كحلم (بادٍ ويعجــز خاطري إدراكه * وفتنــتي بالظــاهر المُتـــواري) واحة ٍ ممتدة في قلبي، تتعرشين كشجرة صفصاف رابضة على قمة الجبل، أو كزيتونة يضيء زيتها، كلما أنطفأ بنا مصباح الطريق، أيتها البيضاء القلب، العميقة، الصامدة، الشابة، النابضة حياة، العابثة بألوان العشق، وأفنان الفرشاة، الناهضة من فورة الخيال، الراسمة حدود المحال، الشهية حين تلوحين، السلطانة حين تتكلمين.


• كحياة تنبعث في شريان الحياة، ليبيا بك، فيك، منك، إليك، نبضها وقلبها وشريان حياتها، لا يكون لي أن أزرع نهاراتي دون أن ينتشي إحساسي برؤية كل ألوان الطيف فيك، أمضي كطفلة تعشق الضياع بين أزقتك الضيقة، هنالك حيث الرواية، والتاريخ، وآثار اليد الهمجية على ملامحك، وعبق التراب الليبي الواحد، لا أظن أن ثمة من يرضى أن يجعلك لوناً واحداً، فالكل هنا أراه يبحث عن الكل، ووجهي مرتسم بمعالمك، وسم وراء وسم، لدي حلاة بنات جنوبك، ولدي لكنة طرابلسية في حديثي، ولدي حرارة الروح البنغازية، ولدي عفوية وتمرد أهل الشرق، ولدي كياسة غربك، ولدي ما لدي من اللا والنعم، لأبقى بك، ويبقى بلدي بك، لدي أيقونات عشق أبعثرها على سيمياء وجهك، أكتبها فوق منصة أفكاري، سقف سمائي أنت، إلهامي أنت روحي أنت، أمرض إذ تمرضين، أموت لو تنتهين، أعيش و أنا أتنفس من رئة هواك، أعلم أنك تتألمين، تقاسين، تغالبين، تتماهين، لكني كأي طفل تذوق ماءك، ملحك، لا أملك منك ما تملكين مني، يا مليكة الروح والقلب، خذي مني ما تشائين، خذي من العمر ما تريدين، كلناعزاء لك حين تبكين.


بنغازي 2015

سرد / مــا قبــل الرحـــيل دمعة

 سرد / مــا قبــل الرحـــيل دمعة...





مَنْ يعبرُ بي إلى ضفة الاحتمالات الأخرى... دون أن يلمس كبريائي المُثقل بجراحها بنغازي؟ يتذوقُ ملوحةَ دموعي كل أيامها، ويتناول قهوتي المرة عني، يعترف له في مرآته أنني مُصابة بهوس الكتابة، وجنون بُنِ صباحي، المُرتسم على سماء بحرها الحزيـــن في جذوع ذاكرتي ـ المُرساة في أصلاب عقلي، حيث قتلتُ عمداً بعضاً من ذكرياتي، وشنقتُ فوق مقصلة حزني المزيد والمزيد من مدوناتي، ونفدَّتُ أحكاماً غيبية عني، وارتديتُ تنورةً قصيرةً دون إذن أمي، وفتحتُ أزرار قميصي للريح، من وراء أبي، وسرَّحتُ شعري فوق موجة جليانية، مُعلنةً ذبحي من الوريد للوريد بيدي.... شهيــــــــــدة أنا..... كم تركتُ للقدر فرصة أن يقدِّني من عفويتي، ويُخلي سبيل وجهي من حيائي، لعلني على يديه أُبعثُ من جديد، و دون اعتبار لعتاب وجهي بالمرآة أُطلقُ سراحي فيِّ، أتركه ينسابُ مني، ينخلع من أناتي، في ومضة فرح، وشهقة أمل ـ حطَّتْ روحي على نافذة الوجد، متسائلة عمن سيرحلُ بي من حيني... مَنْ سيهتمُّ أنني كنتُ هنا؟، أغتسلُ من أوجاع الكلمات المقروءة، أترجم ُ الألم أملاً وراء أملٍ، أذهبُ بكعب الرجاءٍ، وأعودُ بخفِّي الخيبة... أقرأُ مقالاتٍ، وأشعار، ومشاجرات، ومشاحناتٍ، ثم أعودُ ثكلى، من مستقبلنا المهترئ، بقدامة أفكارنا، وشره عقولنا للاختلاف، وهوِّة جهلنا، وبضراوة ٍ أُمسكُ قلمي ـ وتشرعُ يميني في خط جفن أوراقها البيضاء، يكحلها قلمي الأسود، من يأبهُ بأنْ أتألمُ لعبارة كتبها لي؟ أو تجاهلٍ تعمَّده؟ أو ألم تسبَّبه لقلبي المرهف، لا أحد سيقول أكثر من اسمي، إذا شعر أنه سيحدِّثُ العين في عينها، والزاي في زينها، والتاء في توريتها، لن ينتبهوا لغياب عطري، أو يتذكروا تاريخ مغادرتي، أو يتفقَّدوا قائمة الموتى، ليُعزوا قصائدي في غيابي... غريبةُ الروح، والناس حولي.... مُقيدة بإسكفة حزني، وخلاخيل عزلةٍ تلفُ طوقها حولي، وحدها قصائدي تفهمني، وحدها تنفضُ عني غباري وحدها تعرف أين موضع الشوكة في قدمي، وكيف تشرأب من لوعة يقيني، لأجلها ألتحفتُ بُردة الهجران، سعيتُ بين صفا، ومروة كلماتي، طوَّفت عشقي على وريقاتي في ردهة بيتي، كتبتُها شوقاً على جداري، محفوفاً بفراقها الندي، وماء رحيلي لازال يغسلني لهذه اللحظة، ثم غادرتُ إلى نومي، حيث سيرتمي الليل بين أحضاني ـ طفلا فطامه عمري بأكمله، سأظل ـ ما حييت - أحتفي بشرعيته لي، طالما حرَّمت عيناي عشق النهار من بعدها!... وأنت ِ يا سمراء السَّمر والليل.... يا من تشبهين ألمي..... مَنْ سيأبهُ بأن يُلملمُ جراح الثكالى مثلك، الحافيات على رملها، الماشيات فوق صفيح ساخن من الفتنة، والعذاب، والألق، الفاقدات أرواحهن بعد لظى الفراق الذاهلات عن مراضعهن، الحمَّالات لحطب جهلنا، ليبيات ما فرقن عنا في شيء، سوى ملاحة وجوههن، وسماحة لسانهن، ولكنة لهجتهُن المغرية، وغزل أناملهن، لجميل الطوق، والأسورة، تاورغيات، لا سعيدات، ولا قريبات، يتفيأن الظل، مِنْ مدينةٍ لمدينة، السكين مغروزة في الخاصرة. ومبادئ الفتوى، قاصرة عن الاحتواء، تحذو مناهج العنصرية والإقصاء... الدخان ملأ الأنحاء، والكلُّ يترصد الكلَّ، والجمال يُسحق بلا لطف بين أيدينا، والورد يختنقُ من قسوة أصابعنا، والبنادق تماهتْ شكلاً آخر، فتصيَّرتْ ، الكلمات رصاصاتٍ و الباقات قذائف، البيانات فتاوىً، والأفراح كذبةً، والنصر سراباً، والعودة حلماً .مَنْ سيفك قيدي مني، يتركني أبكي لديه، دون أنْ يسألني كفاف الدمع أو يطلب جفاف نبع عينيَّ، لا أحد في بلادي يستحق ُ الحب، منذُ خان رجالات بلدي حبيباتهم، وسخروا من عواطفن، باعوا حبيبة الكل بأبخس الأثمان، واطلقوا ورائها قطعان الذئاب... مَنْ يصدح بأغنيات الوطن، وقد هُجِّرت بلابله، وأُلجمتْ أفواهِ شعرائه، نتشدقُ بقمحنا، وشعيرنا، وما من خبز لنأكله، يمنحنا شعوراً بكفاف عيشنا، أو شكر ربنا أو حمد نعمتنا، قشِّات كثيرة قصمت ظهر بعيرنا، وأناخ به ساستنا عن جادة الصواب نتفنا شعرة معاوية، وتجردنا منا، وخلعنا عنا ثوبنا، فكشف مخيطنا ومحيطنا لأي درجة كنا عُراة من ضمائرنا، وصنو فطرتنا... سأفتح يا حبيبي أيقونة الرحيل، و أشدُّ النجمات من أُّذن الليل، و أهرقُ ما تبقى من كياني، مُبددةً عمري في إحصاء تجاعيد وجهك، وقراءة معالم الشيخوخة على ملا محك التي أعتقها وجه النهار من ليلي الطويل، واعدة إياك أن أرجم حضورك الآني، من زمنك الفاني، لأكمل حياتي في كتابة اسمك على مدونات العتاب... مَنْ يعيدُ لي هدوئي، وثمالة سكينتي، وأنا أنتفضُ من ريشي، قشعريرةٌ تستبدُ بجسد أنوثتي، تحيلني لكتلةٍ ذائبة من الوجع، تجرأ الأسى على نسغي، وفتت.... الرجاء في قلبي، وتواطأ الرحيل بأهلي مع دمعي الحِرير، فما ترك لي هدباً، إلا وتكحَّل بإثمد الغياب... مَنْ يرحمني من حرقة قلب، صبَّته الصبابة في جوف روحي، و أبقته فوق جمرةٍ شكَّها عود عوسج، نما من روح صبَّارة في واحة ٍ اعتزلت سرابها، فيا ماءها، و يا عذوبة مذاقها، ويا ظلها النقي، ويا وجد روحها، أبلغي عني نخلاتك العصماء، أنَّ عمىً تكلل بعينِّيِّ لما مررتُ بها، وناء القلب بطرفه عنها، يسألُ عمن يسكنُ بها من الأحباب... ما قبل رحيلي دمعة تحفَّها عيون الوجد مني، يا من تفننتَ في سحق جميل أمنياتي على صوت هديلك، طيَّرت اليمام من على كتفي، بعد أن رام رائحة عنقي، رحلَّتني لعزلتي من جديد، ما آليت عليك جهداً، إلاَّ وترجمت فيه أناي، ورفعتَ عني غطاي، وشممتْ جنائن عبيري، وتنسَّمت شذاي، ثم قلت أنَّ ضوء النهار من عزتها، واستعارتْ من روحها عبارتها، فعقلتُ روحي من هنا، وتوكلتُ عليك، في كتابة مخطوط جميل عن فراقي... حينها سلِ الفراق لِمَ ترك للرحيل فرصة الرحيل، و لِمَ لمْ يتلكأْ كعادته، في حزم أمتعتي هذه المرة، حافيةُ القدمين دخلتُ بابك، ظننتُ أنه الحلم تهيأ لي في ومضة برق، صعقتَ ابتساماتي ببارق سناك، وأمطرتَ سحائب كِبرك عليَّ، صببتني لمَّا في وجعك، وجمعتني همَّاً في ألقِ التفكير بك ، أدركت ما أدركتَ من حزني، وكتبت ما جاز لك من عدد اسمي، ودون شعور منك قرأتَ الفاتحة على موتي، ونسيتَ البسمـــلة على روحـــي... ذات رحيل 2015/7/22

سرد / وحيداً مثلي !






سرد / وحيداً مثلي!

• يتركني ظلي حين أتذكر وجهك، طافحاً فوق ندى أوراقي، المنتظرة دموع المحبرة فوق صفاء وجهها، يتخلى عني نخاعي، كأن ينسلخ في لوعة حنين، أو يتجلى في ومضة برق، صعقتْ أحلام نهارها تلقاء غيمة مترعة بآمال الهطول، ورحم الأرض ينتظر البذرة الأولى، ذلك الإنفجار الكوني الأول، من عمق الصميم ومن غياهب التراب، تأتي أنت، من تلك الذرة، ولاشيء أعظم من كونك وجه طيني، و روح تشكلتْ في تدويرة أيادٍ فنانة، فمن الوجود الآني، إلى كينونة الفاني، تمخضك تشكلات الأنا، الوحيدة، المُغتربة، الواقعة في نزق اللحظة الخاطئة، الغارقة في ندم الذبول جراء عجلة الانتقاء.

• وحيداً مثلي، تسقي إناء زهورك المتوحد عند نافذة، توحدت كرسياً قابعاً قربها، يهزُّ كل مساء غصن الشوق إلى الوجوه الغائبة، وزئبق الملامح المُرتسمة عند زجاج النافذة الغائم، يتصورك العنكبوت الذي أقام بيته في إحدى زواياها، مثله، في بيت الوهن والوحدة، يترقب متى يختفي عنه ظلك، ليبدأ يومه في ملاحقة الأرواح الخارجة عن تغريد سربها، فراشة عشقتْ، فغرقت في هالة الضوء، أو نحلة تلذذتْ، فماتت في العسل، أو نملة تمادتْ في التوحد، ففقدت بوصلة الطريق، أو جناح لم يقو على الطيران، فسقط رهين الحلم بالتحليق!

• وحيداً كغريب يعبر نهراً مكتظاً  بالأسئلة، تاركاً ضفة الاحتمالات رهينة التردد، يمضي به التيار إلى حيث لا يترك البحر للنهر فرصاً للشك، بأن الوجود الصغير يُفضي إلى كون يكبر كلما اتسعتْ فوهة البحث به، انطلقت رصاصة السؤال في بحثٍ جاد عن وجود آخر كائن  فيه.

• وحيداً كوحدة مغتربة، ضاعتْ في خضم الوجود المرتحلة لأوطان بعيدة، تبحث عن وجودها في أرشيف أعدته أيقونة الرحيل، أسماء تختصر مسيرات، أثقلت كاهلها بملح العتاب، مجَّها السكون في حيرة تقبع كل ليلة، كل صباح، كل نهار، كل مساء، في بركة فار بها عذاب الانتظار، سحقها وجع التساؤل كوردة ذابلة، أسرها ضوء الشمس في جفاء، أكل بلا لطف جميل مُحياها، وأوغل في عطشها حتى نالها النصب.

• وحيداً كرصيفٍ مرَّرت ذاكرة الأيام أجندتها على وجهه ـ فلما ألقاه كاهل الذكرى في حضن الأحبة انهار، وتشققت ملامحه في تجاعيد أخبرتْ العابرين عن أيقونات معبأة بعطر الزمن الجميل، وأيادٍ  كانت متشابكة بين أحضان شارع ألقته الطرقات في قسوة لحياة ٍ لا ترحم.

• وحيداً مثل مئذنة تصدح، في وطن الغربة، تتكلم صوتك، تناديك لمسجدها، وحين تتوضأ بماء التوق لرؤية الله فيك، تخونك دموعك، عند أول وجه حطَّ عليه طائر الغياب، ليحملك في رحلة الجوع إلى ملامح أكلها الزمان، وشرب من تجاعيدها، حتى استمرأ بها العمر، وحملها لآخر المطاف!

• وحيداً كرحلة خالية من  مسافريها، حقائبها محزومة بأربطة الاستحالة، تكتب قائمة ركابها من أسماء اختارتها كأعشاش يمام غادرتْ، بغير تأريخ عودة، متى التمستْ الدفء، وجدتْ البرد حجة الرحيل  نحو شمس الوجود، إلى وجود يغرف من وجد المطلق، حقيقته الأزلية.

• وحيداً كفزاعة في حقل، احتلته الغربان، سقط أسيراً للنوايا السوداء، المدسوسة في صواع أمنياته، نقرتْ بذاره، واستولتْ على ثماره، فلما استنزفتْ منه قواه، وخارتْ به رجلاه، ماعاد يحتمل فراقه لظله، فأنشأ فزاعته، لعله يأنس ألا يكون، يقنع بأن يُفرغ تماما من محتواه، يتجرد من معناه، من مفاهيم إنائه، وماضيه وذكراه، على ألا يخسر من روحه أيقونه الوجود.

• وحيداً كأسير في سجن انفرادي، اغترب حتى تصعدت روحه السماء، قيدهُ سلاسل من ماض ٍ بعيد، تشده للوراء كلما خطا خطوة نحو الأمام، ينام ويده وسادته، وحنينه غلالته، وعقله يدور كطاحونه تمخض في ماء العتاب وملح الغياب، ليله ما لاح له ضوء إلا من وراء قضبان المسافات، وأسوار الجهات، يتلكأ كأعرج فقد عكاز صبره، يترنح كأعمى فقد ملامح أحبته، ينتفض كأطرش هزَّه صوت الحنين لجرس الحكايا والماضي التليد!
• وحيداً مثلي، كعزة حين تُلقي أحضانها لجدارها العازل، ليس ثمة ما يحيطني، وما يحتضنني سوى ظلي، قائماً على الحائط، جالسا في زاوية منزلي، متكئاً مثل شمعة ذوَّبها الأنين، متجعداً كزمنٍ تآكل من نائبات الدهر، وكسنة ٍ توالت عليها أيام عجاف ـ فما أفرحت قلبها  بوطن يتسع لحجم أمنيات النهار.

• وحيداً، وقد تركتك قرب زيتونة انتظارك، وصبَّارة وجدك، لعلك تنبعث من لحاء شجرة صامدة، أومن رحم بستان طال شوقه لغيمة تغمر بقبلاتها وجهه، أو من بئر منسي ينتظر سيَّارة يرمون إليه بيوسف قومه، أو من عش يمامة نسيتُ أناملك فيها، وقصاصة ورقة  كتبت اسمك عليها، أو من بطن رحم ينفجر في الأرض، يعلن بدء رحلتك، وانفتاق بذرة قدومك للوجود  من جديد.
وح ي داً  م ث ل ي....

ذات تشابه معك
2015:11:9