أشرع أبواب قلبي لنوافذ الريح ، وسقف السماء يحتفي فوقي ، تتساقط دموعه مطرا يغدق على جبيني ندى يتقاطر قصائد لقاء ، وعناقيد تتدلى من ثقل الشوق والحنين ، كلمات وكلمات ، تتكدس في باحة خاطري ، فيما هسيس الشعر يهمس لروحي الضائعة بين أكوام الملح : تعالي حافية ، اخلعي نعليك ، واكشفي عن ساقيك ، وادخلي الصرح آمنة من بوح الخاطر ، اختزلي الكلم ، واجمعي أعواد ثقاب المعنى ، في حزمة نثر
ثم أنثري الحب شعراً ، يتساقط على شين الشعور تراتيل جنية ، تحمل عين القلب إلى باحات كانت مقفلة من قبل أن تقودها راء الريان إلى رحلة الهوس المجنون والشوق المخبول بترانيم البوح ....
يدور بي الوقت ، وقلبي يرنو للنوافذ العالقة على جبين الانتظار ، عقرب الساعة في المدار يأكل ما تسنى له من لحظات ، منذ أن بقيت وحيدة بدونك و أنا أسامر القمر ، أتذكر بياض روحك ، وشجرة اللوز ، وكيف كنت تزرعني في كفك حقول قمح ، وتحصدني من قلبك ابتسامات فرح تلوح على محياك ظاهرة كونية ، تستعيد الحياة الغائبة من ثقل الوجود ، كيف أستحلتُ وقتها قصائد في عينيك ؟ ، وغابات زهر تعرشت في وجدك ؟، فأزهرت بوحا من عسل شفتيك .
معبأ هذا الليل بقناديل السهر ، يترك وجنتيِّ الريح ، وينداح إلى جبين السماء ، يرسل قبلاته المضيئة للأرواح التي تلتمس دفء الحكايا ، وكفِّ السهر ، ويرشق نبال النور فوق شفاه الهمس ، ليتسرب هسيس حديثها الآتي من دعة السكون ، إلى دفق القلوب المشتاقة .
تلهمني عيون الليل بسوادها الفاحم ، فأقرر أن أتسحب إلى طيفك الآني ، أنغمس في شذرات مجتمعة من جمل فاح عبيرها عطرا رائجاً ، فلمعت في الوجد كسنا بارقك المتبسم ـ أردتني قتيلة ولم يحن بعد موعد الرحيل ، يسرقني غموضك ، وسحر وجهك إلى واحات ضياع ، سادرة في تيه المسافة ، تحمل الأثير موجة حارة ، كموسمٍ غارق في نسغ الصيف ، غائر في عمق جراحه ، يروم رحم الغيم ، ويأبى الغيم إلا يشد الترحال لرحلة بلل موغلة الاشتياق ، مفعمة بالشوق والدفء حتى كاد الشتاء أن يلفظ روحه توقا إليك .
سأكتب أشواقي إليك ، بالحبر على وجه الماء ، على ورق يمنح للبياض حقوق الكلمات ، على لحاء شجرة صامدة أمام رقة فراشة تشهد تحورات جسدها ، على صفحة تجردت من أوامر السطر ، حتى أتهجأ أبجديتي العرجاء إليك ، ويكفُّ الصمت عن شراسته الأليفة مع هدوئي ، يخلي سبيل وجهي من حرقة الشعر في قلبي ، ثم يتسرب كالماء لدمي ، يروي عطشي المتشرب من لعنات الغياب ، ولغة العتاب ، و يباس الجفوة ، ويقيني الجاهل بتحورات الزمن ، ومزاجيــة عقرب التوقيت ، وتلاعب الحظ بمفاجآت المجيء وعدمه .
اترك لي باحة عارية من مخاوفي ، أزرع فيها حقول الياسمين والجوري ، أجوس بين التوق والشوق على مقصلة الحنين ، أشنق إحساسي ليتدلى على حبل المسافة ، ويترنح كما قتيل أرداه سهم الرحيل ......
• وحيداً تفتحُ أزرار قميصك للريح، تترك يمامتك البيضاء تهدل بصوتها على شرفة اغترابك، تفتح كفيك سخاء لقمح الحب، لعل العالم يسمو كما يشتهي جناحها المسالم، تترجم كسادنا الأخلاقي في سجنك الانفرادي، تكتبُ مأساتنا الخالدة في دفاتر صمتك المهيب، وكأن رحم الكلمات ما أنجب إلا سبع لغات عجافٍ، عجزت عن الاتيان بصيغة تناسب حجم أوجاعنا اليومية...
• وحيداً بين أشياء المنضدة الغائبة عن الوعي، والوجود، الهامسة في سكون الريح، الواقفة بصمود عتيدٍ قبالة الوجوه الفرحة والحزينة، المُثقلة بعتاب الملامح التي تكتم أسرار الغرباء في نخاعها، وتقبل أن تخدش الأنامل الغاضبة لحاء وجهها مقابل الاصطفاف على صدر أوجاعها... فمتى تأتي السنبلات الخضر لتعلن موسماً مليئاً بالحب؟ معفراً بالحناء، يجتاح سماء العالم، ويعلن بدء عصور الإنسانية، لتكمل نجمة تتريت طريقها نحو الفجر...
• المائدة التي يتسع صدرها لشتى صنوف الأكل، يتسع وجهها لكل تعابيرنا الهلامية، الماهرة في التمدد والانكماش، والبوح بأحاديث الروح، تفترش أوجاعك على مُحياها، تتسرب عبر تجاعيد وجهها، تتغير ملامحها من آثار الزمن عليها، لكنك تركن لقلب الخشب الدافيء دون أن تلسع نسغك حرارة المكر، وكيد الصحاب...
• المنضدةُ سيدةٌ كريمةٌ، تفتح ذراعيها بسخاء السماء، حين تهبنا غيمات ماطرة، وتنتظر انفجار رحم الأرض بالحياة، إنها تمتص أوجاعنا، وتُسرح الكلمات من سجوننا البائدة فينا، تتحمل دق عنقها ونزف جسدها، حين يروقنا أن نفتح نوافذ قلوبنا على مصراعيها، وحين نجود بأحزاننا على سيمياء وجهها المتآكل من لوعة الذكريات الممتدة على عاتقها، إنها لا تسألنا، بل توميء لنا بالإيجاب، و توافق على ما نغدقه عليها دون سؤال، تمضي غير آبهة بانفعالاتنا، وموجات غضبنا التي تكسر أضلاعها في شراسة قاتلة ، وحفرياتنا الراسخة على محياها، سيدةٌ مثل المنضدة، لا يمكنها أن تجيد في الكون سوى ترجمة لغة جوارحنا...
• الطاولة بيت الحظ، وبئر فلسفة حجر النرد، وألفة المواضيع ـ واختلاف الآراء، ودبلوماسية الدول، تترنح أو تتوازن تبعاً لما تقوله لغة الأوراق فوقها، تمر من عُصارة لحائها مختلف المدارس الدبلوماسية، تهبها الانتظار، والوقت، والزمن، الوجوه المتذمرة، والسعيدة، لكنها لا تتخلى عن ميثاق شرفها، ولا تبيع جسدها للنجار بعد أن أفلتت من عقال مطرقته، بل تمضي سادرة في غي رسالتها، صابرة على إلحاح عقولنا المثقل بالحاجات، وتعب أجسادنا الباحثة عن مأمن من العذاب، الطاولة سيدة أعمال نزيهة، ثابتة على مبدأ التواجد، سائرة على درب التناقض، تجمع أو تُفرق أو تقسم أو تطرح من معادلاتها صفقات وأجساد وحظوظ ووجوه...
• ثمة إنسان يحاكي المنضدة في سلوكها الكريم، تمر عبره صداقات وعداوات، وحقائب السياسة والمشاريع، يترفع عن مضاهاة الألم بفعل عكسي، يتوجع تحت وطأة التناقض في الصلات لئلا يخسرها، يمنح قلبه بسخاء، يتذكرـ متى حضرته ذاكرة الأيام ـ أولئك العابرين عبر مساماته، ثم يمضي بثقة، غير آبه بما قدمه، ويقينه بالله يتساوى مع المنضدة في شعورها، وإيماءات تجاوبها للحياة...
• المنضدة مدينة فاضلة، أو دولة تكونتْ من ضروب خيال أفلاطون، لم يتوصل لماهيتها، أو لسانيات كنهها ذي سوسير، مهما أبدع في جعل اللغة ذات مبدأ وأصل، إلا أنه لم يلتفت لثوابت اللغة الطبيعية للجماد، التي تبدو رغم سبات عقلها، حاضنة كل الثقافات، ومستوعبة لشتى العقول، وقابل طبيعي بالتعددية فوق مساحتها، جامعة بين الفقير والغني، المسلم والمسيحي واليهودي وتلك وذاك وأنا وهي وهو، الذكر والأنثى سواء، الجاهل والمتعلم معاً... إنها مدرسة كبيرة، ترتع أمام ناظرنا، لكننا لا نلتفت لماهية الجماد حين يتحدث تاريخنا، شرفنا وعارنا، وعصورنا البشرية، بهمجيتها وتحضرها...
ــــــــــــ
هوامش:
- تتريت: كلمة أمازيغية تعني نجمة.
- أفلاطون: منشي فكرة المدينة الفاضلة.
- ذي سوسير: من أشهر علماء اللغة في التصورات والأبنية اللغوية.
مَنْ يعبرُ بي إلى ضفة الاحتمالات الأخرى... دون أن يلمس كبريائي المُثقل بجراحها بنغازي؟ يتذوقُ ملوحةَ دموعي كل أيامها، ويتناول قهوتي المرة عني، يعترف له في مرآته أنني مُصابة بهوس الكتابة، وجنون بُنِ صباحي، المُرتسم على سماء بحرها الحزيـــن في جذوع ذاكرتي ـ المُرساة في أصلاب عقلي، حيث قتلتُ عمداً بعضاً من ذكرياتي، وشنقتُ فوق مقصلة حزني المزيد والمزيد من مدوناتي، ونفدَّتُ أحكاماً غيبية عني، وارتديتُ تنورةً قصيرةً دون إذن أمي، وفتحتُ أزرار قميصي للريح، من وراء أبي، وسرَّحتُ شعري فوق موجة جليانية، مُعلنةً ذبحي من الوريد للوريد بيدي.... شهيــــــــــدة أنا..... كم تركتُ للقدر فرصة أن يقدِّني من عفويتي، ويُخلي سبيل وجهي من حيائي، لعلني على يديه أُبعثُ من جديد، و دون اعتبار لعتاب وجهي بالمرآة أُطلقُ سراحي فيِّ، أتركه ينسابُ مني، ينخلع من أناتي، في ومضة فرح، وشهقة أمل ـ حطَّتْ روحي على نافذة الوجد، متسائلة عمن سيرحلُ بي من حيني... مَنْ سيهتمُّ أنني كنتُ هنا؟، أغتسلُ من أوجاع الكلمات المقروءة، أترجم ُ الألم أملاً وراء أملٍ، أذهبُ بكعب الرجاءٍ، وأعودُ بخفِّي الخيبة... أقرأُ مقالاتٍ، وأشعار، ومشاجرات، ومشاحناتٍ، ثم أعودُ ثكلى، من مستقبلنا المهترئ، بقدامة أفكارنا، وشره عقولنا للاختلاف، وهوِّة جهلنا، وبضراوة ٍ أُمسكُ قلمي ـ وتشرعُ يميني في خط جفن أوراقها البيضاء، يكحلها قلمي الأسود، من يأبهُ بأنْ أتألمُ لعبارة كتبها لي؟ أو تجاهلٍ تعمَّده؟ أو ألم تسبَّبه لقلبي المرهف، لا أحد سيقول أكثر من اسمي، إذا شعر أنه سيحدِّثُ العين في عينها، والزاي في زينها، والتاء في توريتها، لن ينتبهوا لغياب عطري، أو يتذكروا تاريخ مغادرتي، أو يتفقَّدوا قائمة الموتى، ليُعزوا قصائدي في غيابي... غريبةُ الروح، والناس حولي.... مُقيدة بإسكفة حزني، وخلاخيل عزلةٍ تلفُ طوقها حولي، وحدها قصائدي تفهمني، وحدها تنفضُ عني غباري وحدها تعرف أين موضع الشوكة في قدمي، وكيف تشرأب من لوعة يقيني، لأجلها ألتحفتُ بُردة الهجران، سعيتُ بين صفا، ومروة كلماتي، طوَّفت عشقي على وريقاتي في ردهة بيتي، كتبتُها شوقاً على جداري، محفوفاً بفراقها الندي، وماء رحيلي لازال يغسلني لهذه اللحظة، ثم غادرتُ إلى نومي، حيث سيرتمي الليل بين أحضاني ـ طفلا فطامه عمري بأكمله، سأظل ـ ما حييت - أحتفي بشرعيته لي، طالما حرَّمت عيناي عشق النهار من بعدها!... وأنت ِ يا سمراء السَّمر والليل.... يا من تشبهين ألمي..... مَنْ سيأبهُ بأن يُلملمُ جراح الثكالى مثلك، الحافيات على رملها، الماشيات فوق صفيح ساخن من الفتنة، والعذاب، والألق، الفاقدات أرواحهن بعد لظى الفراق الذاهلات عن مراضعهن، الحمَّالات لحطب جهلنا، ليبيات ما فرقن عنا في شيء، سوى ملاحة وجوههن، وسماحة لسانهن، ولكنة لهجتهُن المغرية، وغزل أناملهن، لجميل الطوق، والأسورة، تاورغيات، لا سعيدات، ولا قريبات، يتفيأن الظل، مِنْ مدينةٍ لمدينة، السكين مغروزة في الخاصرة. ومبادئ الفتوى، قاصرة عن الاحتواء، تحذو مناهج العنصرية والإقصاء... الدخان ملأ الأنحاء، والكلُّ يترصد الكلَّ، والجمال يُسحق بلا لطف بين أيدينا، والورد يختنقُ من قسوة أصابعنا، والبنادق تماهتْ شكلاً آخر، فتصيَّرتْ ، الكلمات رصاصاتٍ و الباقات قذائف، البيانات فتاوىً، والأفراح كذبةً، والنصر سراباً، والعودة حلماً .مَنْ سيفك قيدي مني، يتركني أبكي لديه، دون أنْ يسألني كفاف الدمع أو يطلب جفاف نبع عينيَّ، لا أحد في بلادي يستحق ُ الحب، منذُ خان رجالات بلدي حبيباتهم، وسخروا من عواطفهن، باعوا حبيبة الكل بأبخس الأثمان، واطلقوا ورائها قطعان الذئاب... مَنْ يصدح بأغنيات الوطن، وقد هُجِّرت بلابله، وأُلجمتْ أفواهِ شعرائه، نتشدقُ بقمحنا، وشعيرنا، وما من خبز لنأكله، يمنحنا شعوراً بكفاف عيشنا، أو شكر ربنا أو حمد نعمتنا، قشِّات كثيرة قصمت ظهر بعيرنا، وأناخ به ساستنا عن جادة الصواب نتفنا شعرة معاوية، وتجردنا منا، وخلعنا عنا ثوبنا، فكشف مخيطنا ومحيطنا لأي درجة كنا عُراة من ضمائرنا، وصنو فطرتنا... سأفتح يا حبيبي أيقونة الرحيل، و أشدُّ النجمات من أُّذن الليل، و أهرقُ ما تبقى من كياني، مُبددةً عمري في إحصاء تجاعيد وجهك، وقراءة معالم الشيخوخة على ملا محك التي أعتقها وجه النهار من ليلي الطويل، واعدة إياك أن أرجم حضورك الآني، من زمنك الفاني، لأكمل حياتي في كتابة اسمك على مدونات العتاب... مَنْ يعيدُ لي هدوئي، وثمالة سكينتي، وأنا أنتفضُ من ريشي، قشعريرةٌ تستبدُ بجسد أنوثتي، تحيلني لكتلةٍ ذائبة من الوجع، تجرأ الأسى على نسغي، وفتت.... الرجاء في قلبي، وتواطأ الرحيل بأهلي مع دمعي الحِرير، فما ترك لي هدباً، إلا وتكحَّل بإثمد الغياب... مَنْ يرحمني من حرقة قلب، صبَّته الصبابة في جوف روحي، و أبقته فوق جمرةٍ شكَّها عود عوسج، نما من روح صبَّارة في واحة ٍ اعتزلت سرابها، فيا ماءها، و يا عذوبة مذاقها، ويا ظلها النقي، ويا وجد روحها، أبلغي عني نخلاتك العصماء، أنَّ عمىً تكلل بعينِّيِّ لما مررتُ بها، وناء القلب بطرفه عنها، يسألُ عمن يسكنُ بها من الأحباب... ما قبل رحيلي دمعة تحفَّها عيون الوجد مني، يا من تفننتَ في سحق جميل أمنياتي على صوت هديلك، طيَّرت اليمام من على كتفي، بعد أن رام رائحة عنقي، رحلَّتني لعزلتي من جديد، ما آليت عليك جهداً، إلاَّ وترجمت فيه أناي، ورفعتَ عني غطاي، وشممتْ جنائن عبيري، وتنسَّمت شذاي، ثم قلت أنَّ ضوء النهار من عزتها، واستعارتْ من روحها عبارتها، فعقلتُ روحي من هنا، وتوكلتُ عليك، في كتابة مخطوط جميل عن فراقي... حينها سلِ الفراق لِمَ ترك للرحيل فرصة الرحيل، و لِمَ لمْ يتلكأْ كعادته، في حزم أمتعتي هذه المرة، حافيةُ القدمين دخلتُ بابك، ظننتُ أنه الحلم تهيأ لي في ومضة برق، صعقتَ ابتساماتي ببارق سناك، وأمطرتَ سحائب كِبرك عليَّ، صببتني لمَّا في وجعك، وجمعتني همَّاً في ألقِ التفكير بك ، أدركت ما أدركتَ من حزني، وكتبت ما جاز لك من عدد اسمي، ودون شعور منك قرأتَ الفاتحة على موتي، ونسيتَ البسمـــلة على روحـــي... أعيد نشر هذا النص حزنا على وفاة السجينة التاورغية فوزية عمران شلغوم تحت التعذيب وبعد الاغتصاب مرات ومرات