‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحارس .. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحارس .. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 3 مايو 2016

الحارس








في الليل يبدأ في نزع فتيل النهار المشتعل داخل مسامات جلده ، يتجرد من ثيابه الثقيلة ، ينزع حذاءه المثير للضجر ، يغتسل من هموم الظهيرة ، و أخبار الصحف ، و أحاديث القنوات ، ثم يخصف عليه دثاراً خفيفا من التفاؤل للتغيير .


لا تتغير نكهة الأسئلة ، المعبأة في ركوتها المجنونة ، إذ لا يخفف من تزاحمها داخل رأسه ، سوى الوقت الذي يمنحه عقله لموت الانتظار ، بين استفسار و آخر ، يستغرق في الغياب ، يسرد أشياء الوجع في مصفوفة عجيبة ، تتداعى خطوطها أمامه ، دون أن يتورع عن نزع لبِّ الحكمة من نخاع المعنى ، أو يتأخر في اعتصار ماء العترة من رحم الغيمة ، إنها حكمة الشيخ والبحر ، الذي وهبه الوقت ، فأعطاه الوقار ، و لذة استنباط المعنى .                                                                                             


يذهب النهر للبحر كل الوقت ، يفرغ حمولته من الماء ، وهو مستمر في الاندفاع نحو الاتساع الوجودي الكبير ، غير آبه بعصف الريح على وجهه الرمادي ، و لا بأحمال السفن فوق ظهره ، ولا بأعباء الأقدام بين حناياه ، ومثل رحلة وحيدة ، خالية من مسافريها ، يظل يعرج ويتلكأ ، ينادي على مواعيد لم يحن وقتها ، و أسماء لم تعد في الوجود ، وقائمة موتى تطول في تزايد عجيب ، تكتظ ، تتزاحم ، تملأ مساراته بمختلف الأعمار ، يجرفها نحو العمق ، ليغمرها في رطوبة الأرض ، ثم يتناساها وجه الطين .


كفزاعةٍ في حقل ، يبدأ نهاره قرب باب المقبرة ، يسقط أسيراً للأعين الحزينة ، التي اغتالها وجع الليل بأخبار المغادرة والفقد ، يأخذ الدمع مجراه اليومي كالنهر ، مُوغلاً في حفر أخاديده فوق تجاعيد وجهه ، تعبر الأجساد الحاضرة بابه ، وتعبر معها الأطياف التي انطفأ ضوؤها ، يشارك في طقوس الصلاة ، والدعاء ، والبكاء ، حتى يتوارى الصلصال الطري تحت الثرى ، حينها يتهيأ له أنه سمع أصوات الصراخ في المستشفى المقابل للمقبرة ، معلنةً عن ولادات جديدة ، مقابل وفيات غادرت لا تلوي على حياة !



يمضي به اليوم كبضاعة كاسدة في زمن مهجور ، يحرس صمت الموتى ، ويستمع لعتاب الزائرين فوق المراثي الملقاة على كاهل التراب ، ينشر بياض حزنه أزهار ياسمين ، فوق أكتاف الشواهد البيضاء ، المختبئة من لسعات البرد ، المتدفئة في غرابة العزلة ، وسكون المكان المهيب ، إنه كزيت من الوجع الأليم ، تقرَّر له يومياً أن يطلي به محياه ، ليزداد يقينا بأنه يقف على الطريق العالق بين رصيفين ، أحدهما يبدأ به رحلة العبور ، والآخر ينتهي به المطاف إلى جدار لا رجوع منه .

عزة رجب .

(زيت الوجع الأليم ــ عنوان لمقال للدكتور نجيب الحصادي )