‏إظهار الرسائل ذات التسميات سرد / قبل أن يشيخ البحر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سرد / قبل أن يشيخ البحر. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 23 مارس 2016

قبل أن يشيخ البحر







أتساقطُ كورقةٍ آيلة للاصفرار من دالية عنب، تكاثفتْ قربها عناقيد الشوق، فلم تقوَ على جبال حنينها، وما حان موعد نضجها، خضراء بطعمها اللاذع، كلما تذوقتُ شيئا من رطوبة حضورك، في مواسم الحر، لذعني فراقك بأقباس أسئلة التوق إليك، حبيبتك الجورية الذابلة تتساءلُ عنك في غمار الغياب، ويمِّ العذاب ـ اشتاقتْ إليك أيها الغالي المُطوق بأكاليل عتابي، جعلتك مترعا بأنيني، ومحملاً بأساي، حتى وصلني منك الإعراض، وذهب عني إقبالك في انزياح عجيب، مُثقلاً بخيبة أمل لعقتها منك بمرارة، وما أنا إلا تلك الحمالة لأنين الوجد، الذي مار بي في الأرجاء ـ إذ عدتُ من هنالك وفي قلبي وجل منك، من كم الشروخ التي أثقلت جراحي، ومن حمام نواحي، ومن هديلي المنطفيء، يا الله! حين يأسرني طيفك، يصفدني بين أحضانك، يذكرني بوطن ضاع مني منذ سنوات، الغربة فيه زاد الأقرباء، والعزلة وجه الحديث إلى الأصداء، والفراغ المحيق بنا يأكلنا، يلتهم أعمارنا في شراهة و نزقٍ ,


الليل ليل ٌ، مهما بيَّض وجهه الضوء، الظلمة هنا بللتْ قهري وصمتي، بماء وجهك الملائكي، وعبق مرورك الجبريلي، ياحبيبي هل سمعت به سابقاً في كتابات شاعر، أو كاتب، تحفَّك أجنحته حين تُلقي إلىِّ بقبضة من أثرك، أنتشي بها أوقات رحيلك عني، أتقوتُ منه أياماً يمررها لي الوجود في سخاء، لم أعهده منه قبلاً، وكسيدة تتصوف عشقك، أظلُّ على مسبحة العدِّ، أُحصي كم من الوقت بقي، كي أعلنك مليكي في بلاد الندى، وأحملك قنديلاً أستضيء به آخر عمري، وأُسرج من كلماتك زيتاً، يشعل جذوة تعابيري، ويباركُ فتوحات قصائدي، ويلثمُ خد صباحاتي، كلما احتلني اليأس و أنزل مستعمراته بروحي...


لن يموت الحب، مازالتْ ذاكرتي ترفل بقصائد كثيرة ة، تهدلُ بأصوات المحبين لبلادنا، ومازال الخير معقوداً في نواصي الخيل، المُبكرة في طلعتها كل صباح، ومازالت أغنيتنا المُفضلة تصدحُ، من كل نافذة، ومن باب كل بيت، لازال الوطن يحتملُ، مازال يمكنه ألا يأبه لتلك الخدوش، التي تمزق جلده وتلك الرتوش، التي تجعل من السلام عالقاً، مازال الجدار قادراً عبر ثقب ما، أن يُحدث فجوة فنرى الجانب الآخر من الوطن، مهما كان حجبه عنا أمراً مستحيلاً...


روحك الراكضة في شراييني، تتذوق طعم النضج في دمي ـ تصولُ، وتجول أفياء قلبي ـ تدركُ أن كل أبوابي مغلقة إلا منك، وكل الزوايا يلفها الصمت، وتأنف الضجيج إلا في حضورك الهدوء ـ المُنساب كسرابٍ تطارده أحلام الفراشات، بين أوجاع الحقول، وأخابيب الصحراء، أتجردُ مني إلا منك، أتركُني مُنسابة كطفلةٍ، أبحثُ عن وطني الفقيد، بين قطعان المتاهات، منْ يفهم هذا التراب عدانا، نحن الذين غمسنا أقدامنا في وحل ترابه، و ألتحفنا نجومه رداء لأجسادنا العارية كلما أقبل علينا الليل، نتوسده حنيناً، وفي صباحاتنا البهيجة نسرده حلماً، من غيرنا تعفَّر بطيبة وجهه السموح، المعطاء، وقلبه الدافق دفئاً، من غيرنا لثم خدود الصغيرات الآمنات في شوراعنا الهادئة، وتناول قرب أحبائه أقداح قهوة المساء، الدائرة من بيت لبيت، حتى صارت تعرفنا، وتنتظر أن نحركها من لوعة سكونها، من غيرنا سيهزُّ جنبات الكون، ويفتح أيقونة اللقاء، ويزرع أشجار الحب، ويترك للزيتون فرصة الحياة على ترابنا، من غيرنا سيكتب التاريخ الناصع البياض، ويكفُّ عن هزِّ الجهات للجهات، ويترك لغة العتاب للغياب الذي لن يأتي، من غيرنا سيعمر هذه الروح الجميلة التي لم تشخ فينا، مهما حاق بها من ألم، نعرفها، تعرفنا، يعرف الوطن أنها منه...


تعالْ، وحررني من أوهامي، قبل أنْ تهرم أشجار الصنوبر فوق جبالنا الخضراء ـ قبل أنْ يتجردَ البحر من ملوحته، وتتركه شواطئه للغرباء، قبل أنْ ينفذ الصبَّار من صبره، قبل أن تفور ثقوب أرضنا من الغليان، وتصلب فتيانها على قارعة الحرب التي ما تركت لمقاعد الدراسة طلاباً، قبل أن تنطفيء مشاعل العيون المتوقدة لهفة، قبل أن تخلو الديار من ساكنيها، تعالْ وازرعْ في قلبي بذور أمل تحفُّها روعة اللقاء، واحصدني حلماً تحقق لك أن تراه، تعال واجعل الشمس تدورُ بين شقي رحى، اخطفها لي من مرآة السماء، وزين محياي بقبس من نجوم تروم عشق القمر، واترك لي مكحلة ومرودها لألقاك بها، حين يهزمني الدمع من طول العتاب، تعالْ قبل أن يشيخ مُحيا البحر هذا الصيف، ستجدني قرب شواطئها حافية، الماء يُغرقني في يمِها، ويُنعش الوجود بالوجود، تسمعُ أغاني الأصداف المُلقاة برأسها على كتف الرمال الذهبية، تهمس لها بتاريخنا، وبذاكرة الوجوه المارة من هنا، ترفل بأكتافها الممتدة كلما طال بها الطريق المُمتد ....يُنشد لها إننا لن نخذلك...