الجمعة، 18 مارس 2016

أتكحَّلُ بغيابك






ابتسامةُ النَّهار وجه الضحى
لعبةُ الليلِ قوقعة نجمةٍ في حضنِ القمر
و الحبُّ أنت !
وليلى على هوى شرقىٍّ لايأبهُ لخطوط
الطولِ والعرضِ !

عند درجةِ الصفر ثمة أغنيةٌ تتسربُ لبوحِ الشَّمس
وثمة لحنٌ ينشدهُ البدر ُعند مفترقِ غيمةٍ وأمنيةٍ
ثمة قبلةٌ تتشكلُ في لغةِ الكونِ
تترنحُ فوق قمة الشوقِ وقاع الاشتهاء !

أيا قلبي :
ادرجْ اسمك في قائمةٍ طويلةٍ لمداد كحلٍ أسود
يليقُ بك { الأثمدْ }
يبرئُ عينيك من رؤيا حزني !
يرتديني ألمُك في هنهاتِ الروحِ
تنخلعُ مني روحي باحثةً عن ملاذٍ فيك
تتحسسُني تلقاءَ وجهٍ مرسومٍ فوق خطِّ استواء وجهك
درجتهُ عشقٍ .
مسارهُ أعمى .
حرارتُه تتسعُ لمزيدٍ من الجرح ِ!
يخنقُني رمادك حين تُمطرني رذاذَ ماءٍ
على ذاكرة مشمعة بالأحمر !

يا أنت :
يا أناي !
تلقاء قيسٍ وليلى قلتُ قصيدتي ...
و ألقيتُ ببذوري قبلَ مواسم الطمى
افترق الاثنان !
حرقةٌ بددَّها شرخٌ تناثرَ فوق أفواه
مزقَّها السَّراب في وجهٍ تصحَّر
من ظاهرةِ حبك فيه !

مِنْ أين للجوري بفصول كلها ربيعك ؟
مِنْ أين لبتلاتي أن تُورق أغصانها وشوكك
يوخزُني بأنينِ غيابك ؟
مِنْ أين لعمياء أن تتكحلَ بمرودها وهى لاتراك ؟

لَّليل أنْ يُخلي سراحَ النَّجمةِ من سجونٍ
أوهمها القمر بأنَّها جنات عشقٍ !
و لخطوط طولي وعرضي أْن تتوازي
في دائرة الظنون لئلا تتسربُ ذائبةً
في شمعِك المطلسم بحجةِ حبك !

قلْ للنهارِ أن يطلقَ سراحَ شمس الضحى
ليكتمل نصاب صلاتي في طهر !

الاثنين، 14 مارس 2016

سرد / نافذة وعينان








نافذة وعينان!

للذاكرة وشمٌ على جداريات العقل، إنها تسلب لبِّ الإناء من محتواه، كلما شعرتْ أنَّها محاصرة بالوجوه، وبدأتْ تكتظ في ازدحام الملامح، أفلتتْ من عقالها زمام الزمن، فتسرب كالماء من إناء الفكر، وبدأ العقل في خرف الخيال، يصَّاعد جبال الشهوة للصبا، ماضيا في كتابةٍ تاريخيةٍ لرحلة عودةٍ للوراء، لعله يٌحظى بلحظة شرفٍ، تمنح الفارس وسام استحقاق الأبدية.

عندما قرأتُ لريكور كنتُ صغيرة على الحب، لا أفقه في فهم قلبي شيئاً، وكنتُ أكبر من ثمار الشماري بقليل، مثلها تعلقتُ بشرنقة الطموح، ما إنْ رتلوا أمامي قصيدة الحياة، حتى نأيتُ إلى ركن قصيِّ، وتعبَدتُ في غار وحدتي، هنالك تجلى لي عقلي، ملكتُ منه صيرورة الآني، وعرفتُ مؤمنة أنني زهرة في أوجِّ الاكتمال، وقمة الإحساس، لكني غير صالحة للحب، وهذا العالم ليس على مقاسي، ولا يحتمله قلبي الصغير، ولمَا عشتُ الفقد، لأبي وأمي، لم أفرق عن ريكور في شيء ـ كلانا عاش يتيماً، مُبعداً عن الاقتراب من الناس، ينظر في الأخلاق كأنها غصن يتهدل من شجرة الوجود، فيعطي ثمار معرفته بلا مقابل، ويمضي ويقينه بالإنسان مزروعاً في صدره، كما الإيمان النابع من القيمة، لا من التقييم، الناتج من رحم المعاناة، والارتقاء، لا من التصفيق وميراث الأسماء، عرفتُ حينها أنني أروق للظل، أكثر من حرقة الشمس، فزرعتُ نبات الظل في بيت حكمتي!

نافذةٌ وعينان!... ومزهرية تحيط بصمتي المنزوي في ركن السؤال، يُمطرني الغيم سحابة عائمة، عيناها تصبحان في وطن، وتمسيان دمعاً متساقطاً في وطن آخر، مُهجَّرة كأي غريب، يلتحق بالقطار أخيراً، يحملني كفِّ الريح طفلةً، تتطلع من شرفات السماء فيقع بصرها على المدن العائمة في التربة الطينية، والرملية، والرطبة، أتنشق رائحتها المتطاولة لعنان السماء، ثم أجلس فوق بساطي المتواضع، وأتسربل أغنية تموج مع حفيف الشجر، ووجه البحر، وهديل اليمام، وهدير الماء، ولفح الهواء، وليبيا.. ليبيا.. أتذوقها كطعم مهلبية باللوز على شفتي ِّ المحترقتين لوعة...!

نافذةٌ وعينان!... وقلبي مشرع على مصراعيه للوجع، يصادرني الكابوس بتهمة الإسراف في الحلم، تلحقُ بي رصاصةٌ عابرة في نزق، تخترقُ سرعة الصوت، وتجبرُ الوطن على الصمت المهين، حواريات هاربة من نوافذ الحلم، مررها أرشيف الضياع عبر أبواب غير مشروعة، والناطور الذي يحرس بيوتنا لم يتغير، إنه التالي للبيانات، وللتفجيرات الانتحارية، وهو الذي يمرر لنا لصوص الأكسجين، ويسرق أنفاس الفقراء، ويتظاهر ضد تغيير الحكومات، ويقبض ثمن الاعتراضات، والوجوه تدور... تدور... رأسي كأرجوحة مُعلقة في الهواء، تسقط النسبية هنا، وتنعدم معايير الجاذبية، ويتوقف ماركوس عن إتمام أطروحته، بعد أن سيسوا عقله، وفرقعوا نظريته في قذارة المجتمعات الغارقة في وحل الرذيلة، هنالك تقع الفلسفة في قاع الاختبار، وترتقي الانتخابات على أكتاف الجهل، فكل المختارين الذين مروا من بوابة العبور للحرية، اكتشفنا أنهم بلغوا ذروة الأمية، وسرقوا من أفواهنا حقول القمح والأرز ورغيف الخبز!

نافذةٌ وعينان!... ووجه أمي يحاصرني في غرفتي، ما أطول هذه الليلة ! يمكنني أن أتوسد عراء وسادتي، وألتحفُ البرودة، يمكنني أنْ أضحك في هستيريا و أسمع صوتها الحنون ينادي اسمي في هدوء، لا توجد كفَّ آمنة، أو وجه يومئ لي بما أقول، فقدتُ وجه الروز (نبتة ظلي)، وافترقنا عند عتبة بيتنا، ظلَّت صامتة تتوحد اسمها في المبكى، كلما ذكروا لها اسمي، قالت اسقوني ماء وجودها، ردهات البيت استحالتْ من السكون بيداء قاحلة ـ من الممشى على سيمياء وجهها، يقول جارنا محمد لأخي الصغير كلما التقاه: قل لعزة أنَّ الروز تبدو مُطلة من النافذة، لكني لا أصل إليها، حاولتُ القفز وفشلتُ، الروز بخير، فماء المطر يصلها متسرباً، ولا تطالها أشعة الشمس، أردُّ عليه: قد تموت الروز إذا ارتوتْ من الماء، كما الحرية في بلادنا يا محمد! يسمع محمد مقولتي، فيعود، ويرسل لي أحلافه بسيدي عبدالقادر الفيتوري وهو والده، لا تقلقي طالما أنا موجود!

نافذةٌ وعينان!... يقفز محمد ويجلب لي الروز، ها قد جلب لي مُحبتي، واللصوص يقفزون من نوافذ الدولة، ليجلبوا لصوصاً آخرين في هجيع الليل، وشعبنا نائم، والثكالى فاقدات، والعذراوات نائحات، والفل والياسمين شباب البلد، مات بين أيدينا، شتان بينهم! محمد يُحيي نبتة، وهم يبعثون جزارين، يذبحون ليبيا عشرات المرات في كل مرة، الوطن يتناول جرعات مسكنة، وحبوب مُنومة، وإبر تجعل الأطراف في شلل تام، لا شيء يرانا، حتى الصحافة التي تشخص الوضع، حتى المقالات التي تقول الحقيقة، لم يعد يأبه بها اللصوص، لم يعد أحدٌ يقرأ، إنهم مشغولون بتقاسم نصيبهم، وأمي ترحل بلا سبب، وجارنا يفقد بصره من البكاء، وجارتنا تسقط من النواح، والبيت يتهدل، ثم يخر راكعاً على أنقاضه، والقنوات تغرد بنشيد الثورة المجيد، والمتشدقون هم هم.. في كل قناة يُعاد تدوير الوجوه، ويدور المشهد وراء المشهد!

نافذةٌ وعينان!... لك يا من أطلت في عمري، وبقائي هنا، تركت للعبير هواء يتنفس من نافذة تشرع وجهها، تلقاء مدين بلادي، كلما أوصدوا في وجهي باباً، فتحت لي أبواب السماء، وهدأ أنين المقبرة، وسكن صوت الشهيد، وزغردت ْ الأمهات، وتعالتْ صيحات الإعجاب بالشرفاء، وطالبوني برسم وجه وطني، كتبتُ، وكتبتُ، ما استطعتُ من الحب، نثرتُ حبات اللؤلؤ، زرعت حقول القمح، توهمتُ للجوري مواسم خريفية، جعلته ينمو فيها قسرا، رششتُ عطري المفضل، ولوُّحتُ بالعلم، ومن رسالة عبيرية لأخرى كنتُ حاضرة، في كل تحولات الفراشة على لحاء غربتها، سعيدةً، مجروحةً، باكيةُ، طفلةُ، امرأةُ، مراهقةُ، شاعرةُ، أتوشَّحُ حزني، وأشاهدُ في مرآتي عينان للنافذة، تريان وجهي، وتُطلان بي على شرفة وطني الصامتة، كانت ليبيا ملآى بالمآقي والدموع، وكفَّها مضرجا بالدم، ووجهها شهيد، لكن الشهيد لا يمــــوت!

الأحد، 13 مارس 2016

تجديد / مقهى في آخر الشارع








مقهى في آخر الشارع .








مثل عمود إنارة وحيد ، كان مركوناً في زاوية الشارع الطويل ، محشورا كطفل مراهق بين البيوت الكهلة القديمة ، والواجهات الغارقة في هدأة السكون ، شارعٌ ممتد كما ذراع تلتف على كتف مترهل من الخيبات ، وطول الوقوف على منصة الرصيف .

مقهى في آخر الشارع !
ورِكوة البن تغلي برائحة الجنون و اللهفة ...
للسيدة السمراء الجالسة بقميصها الأزرق بأزراره المفتوحة للريح .
لتنورتها الطويلة التي تتدلى كجديلة شعر طفلة سعيدة .
للمفكرة الغارقة في تواريخ الأيام ، و أحاديث الساعات الواقفة على ساقٍ واحدة .
للقلم الذي يتهيأ لعناق طويل الأمد ليدون مسرحية اللقاء بين الكفوف الدافئة 
على صدر المنضدة المتسع دهشة كعيون سمكة مفتوحة .
للفتى الغارق في قراءة رواية " كوخ العم توم "

مقهى في آخر الشارع !
مثل فزاعة في حقل يراوده الغرباء .
مثل مسافر يفتح ذراعيه للقدر .
مثل أيقونة تزدحم بالوجوه والاشتياق .
مثل مقصلة ذكرى تتدلى على حبالها صور البعيدين .
مثل مزهرية شدت وثاقها للنافذة المُطلة على شرفة القصر.
مثلي حين تكون أفكاري معبأة بأنين الشوق لأحضان أمي .

مقهى في آخر الشارع !
الكراسي تنصت إلى شكوى المنضدة من الخدوش على باحة صدرها .
الخدوش كانت تدوينات لأطياف مرت لإلقاء التحية على النادل الأسمر .

النادل بساق واحدة ...
وعين واحدة ...
ويد واحدة ..
يلتف حولها سلسالا يتدلى منه وسام صغير 

يتأهب كلما فتحت عيون المقهى أجفانها للزبائن للقاء حبيبته السمراء 
، التي لا تفتأ تزرع ابتساماتها حقول قمح للحاضرين .
يتناول معها قهوته المرة ، المكتسحة بعبق الأسئلة ، و أنين التذمر .
يستسلم على مضض لما تهبه شفتاها من كلمات محبة .
ثم يمضي في تلبية طلبات الزبائن ، وهو يرش رذاذ الكبرياء على شكله 

شكله الذي يقول "
إنه أقدم جنود الحرب التي خاضها السكان ضد العنصرية .

عزة ،
في بنغازي .

تجديد / سيدة الظل

    سيدة الظل .


كانتْ كلما ارتقتْ بسمو ، واختارتْ البعد عن الضوء ، أشرأب عنقها القصير للشمس ، ومدَّت أحلامها ترنو إلى حكاية تخلدها في وضح النهار ، أناملها تكبر في دعة ، تهمس للسكون برواية الصمت المهيب ثم تخبو في إناء الوحدة ، تاركة طلاء أظافرها الملون ، يزداد خضرةً في أيقونة الظل !

لسيدة الظل كل الفصول إلا من فصل ٍ ليس لها ، وهواء ً لا يتسع لرئتها الصغيرة ،
ومطر تخشى أن يرويها حباً حتى يقتل قلبها ، ومناخ يميل بمزاجه المتقلب إلى البقاء في العتمة ،
العتمة التي تبوح بكل أسرار السكون التي ألقاها بين ذراعيها .
السكون الذي سيظل يخبو ، ويتحدث همسا ، كلما استمع لهسيس الكائنات الصامتة هناك .
الهسيس لا يسمع أحداً ، لكنه يهب ُ نفسه للشفافية التي تتراءى كجدار خفيف بين العتمة والأشياء !

ظلتْ في الزاوية تكتب أبجدية الحكمة ، و أفكار الشمس تزدحم في مخيلة النبتة ، تحاول التسرب إليها من عنق الضوء ، فتمضي في حياكة طولها ، محاولة أن تزداد خضرة بيقين روح اللون ، اللون الذي لا يناله سوى من مضى حثيث الخطى ، يتصبر أفياء الظل ، و يقبل البقاء منكفئاً ، وحيداً ، يهمس للعتمة الضاربة في السواد ، و عزمه يكبر مع بلوغ النبتة أرواح الظلال ، القابعة في مفاتيح الأثير من عالم الظل .

 كان لها أصيص فسيح يرى بعين واحدة ثقوب الضوء المُتسربة إليها
 ولها عينان ونافذة مُطلة على وجع الأشياء ، مفتوحة على مصراعيها لمناخ الظلمة .
  لها أوراق تصبو كلما ران قلبها بسمو للخضرة ، فترتقي صباحا نحو بصيص النور
  وتنحني في خشوع كلما لامستْ أنامل الضوء أعناق ساقها الرفيع !
  لها روح معجونة برائحة الحناء ، و زهر اللوز ، وبياض الفجر ، وخد التفاح الأحمر ، تمازجتْ في نارنج الشكل ، لتضفي عليها    حلاوة قلَّ نظيرها .
 لها سمو الأمراء ، في ارتقاء معارج النور ، وهدأة الحكماء في خوض غمار التجارب ، و جرأة القدوم حين تتساقط في خضوع ، لتعيد تشكيل وجودها من جديد ..

خاتمان لسيدة الظل .....

خاتمٌ لحكاية الصفاء ، ودنوِ المعاني من مراتب الجزع ، ذلك الذي يجعلها تختار الصبر في لغة الظل 
بانتظار الشروق الأخير ، للحياة الساكنة بين ذراعيها .

و خاتمٌ من قلب يفيض وحدة ،
يتوحده غريب عاش مثلها ، فتوجَّس اغتراب الوجود ، من عميق البقاء وحيداً ، وناء من صيرورة الكائنات ، إلى أضعف وهنات السكون ،وذبذبات الكون ،فكتب بحبٍ اسمه على نبتة ظلٍ في ركنِ بيته !


عزة رجب
—في ‏‏‏‏بنغازي‏‏.


 أسئلة ليستْ من إنشائي!






سأغزلُ بالدمع حباتٍ لؤلؤيةٍ، تنظم من عقد القصائد أهازيج فرحٍ ليبية، أنا الواقفة على بيت القصيد... متجردة مني ـ لا من الشعر ـ صاعدة الروح فوق مؤتلق العذوبة، وماء النثر ـ متى بلغتُ ذروة المدى أعدتُ تصفيف الكلم في زخات الحلم، ورفعتُ رفَّات الهواء نحو نجوم ظلَّ نظرها صاعداً للسماء، تحني رأسها للقمر، كلما تقرَّب منها بأقباس ضوء، تقدمتْ منه زُلفى، وأحرقتْ أجنحة الفراشات كرمى عينه، وصرَّحت له بالدخول، فلما دخل محراب القصيدة، جردته من نور وجهه، وجعلته يخصف عليه من أوراق الشعر حتى بات ليلة بين أحضانها.


سأكتب أيقونات عشق، وأنثر من أريج دمعي زخات عطر ليبية الهوى، أبعثر كياني بيني وبينك طوال مسافة الوصول، وللجهات الأربع أقددُ من منديل الريح قبلات شهية الندى، رطبة الذكر باسمك، محلاة بأحمر وردي، ومحملة بأشواق حنين، ترفل فوق غربال الانتظار ضوء الشمس، تشده شعاعاً وراء شعاع، حتى تمسك أقباس النور، ثم ترميك بشذرات الشعر عشقا وراء عشق.


ما بها ليبيا تبكي مآقي الدمع مثل مآقي حبيبتك؟ لا أراني الله فيها جرحاً، يبكيها ويبكيك في عتمة الغياب، رأيتها تدمي الروح، ونبض وريدها غارق في الاختلاف، أليست جميلة حين غازلتها يد أبو التاريخ هيرودوت فأكثر عنها جميل الكلام، أليست تبدو صبية، في عيون الطامعين، حتى ليكاد النزق يلتهم جسد العذراء، والشاطيء المقابل يزحف بروية نحو رمالها، وتحت أقدامها!


لي فيك الكثير، من روح تصبرتْ الفقد، وحتى نخاع العظم أكتبُ تاريخي، في أرشيفك المخبأ بذاكرة ضوئي المتسربل من أفياء نورك العميق، هنالك عند كل ذكرى، عند كل زاوية، عند كل حرف، ثمة فتاة، وحيدة، تحتفي ببياض الملح وحدها، تغتسلُ من لهيب العشق بماء برنيق، فإذا فار قلبها بناره، أوجزتْ الأشتياق في بكاء، وألقتْ ظلها إليك، وتخلتْ عن الإنس، وسكنت لجدار، لعلها تهدأ إليه.


ما سر هذا الصوان الذي يجذبني إليه حين أفتقدك؟ وياعجبي من الركون إليه، في دفء الكلمات قد نجد من يتلقفنا، لكننا لن نجد من يبعث في أرواحنا السكينة، تلك الكلمة المسالمة، الوادعة، تترفقُ بنا متى شعرنا بالضياع، متى قادنا الاشتياق لوجه بعثره حنين المسافة، متى أطلَّ علينا من نافذة الذكرى بقينا أسرى بلا احتلال، سقطنا موتى وصرعى الانتظار، دفنَّا أشواق الوجد تحت تراب القلب وترجمت الدمعة كل شيء.


ما ضرهم لو بحثتُ عنك، ووجدتك أمامي، بلا تعب، وبلا عتاب يرتسم على وجهي؟ وما ضرهم لو ناديتك فأتيت بسرعة الضوء ـ و ألقيت لي بكفِّ صديق، وذكرت لي ملمات ألمتْ بك، وبشائر فرح أحاطت بحديقتك الغناء؟ ماضرها الحياة لو ابتسمتْ، وضحكتْ لنا ملء شدقيها، وأناخت ْ برحال الإرهاق والنصب عنا، هنالك ثمة أغانٍ في البوح تقبع في قلبي وددتُ لو قلتها لك، وهنا في عمقي ثمة صرير يؤزني، يقرصني، ليدعوني لأن أصرخ، غير أنها صرخة غصَّت في كلمات كثيرة، أوجزها صمتي في إيماءات لا مبالية.


ما دعاك للغياب عني أيها الفرح، أيها الوجه الواقع بين الظل والضوء، أتوسلك ألا تحدثني عن كارل ماركس وعقله مثقوب من بدعة كسادنا العقلي، ولاتحدثني عن أفلاطون وهو واقع في حيرةٍ بين صداقة الحق، وصداقة أرسطو، ولاتحدثني عن كانط وهو يقول دعوها تمشي للفرح، ولا تبحثوا أسباب الفقد، ولاتحدثني عن الحتمية التاريخية للحزن، كي لا يصرخ بي آينشتاين متعللاً بالنسبية، وحتى لا أفقد وجهك حين أشتاقك، حدثني عن ريكور حين يتحفني ويهزني للعمق، ويقول لي أنت ياحبيبتي في تاريخي، وسردي، ووجودي، وزماني، نعم اروِ قلبي برواء العقل، فأنا لستُ أنثى ترضيها سهولة المقولات، ولست أنطق عن هوى الحكايات، ولست أكابر بروحي عن سائر المخلوقات! لكني حين أستكشفُ يروقني تحسس الملامح قبل أن أقرأ ألباب الموجودات.


هاهي زليخة يوسف تُطل علينا... ما جزاء من غاب عن حبيبته؟ سوى السجن لسنين بين جفنيها، والحبس الانفرادي في قلبها العميق، ًوالامتناع عن ملاقاة الناس، والبقاء في جوع لها طوال ماغاب من سنين، دعني لعزيز زمانه أحتكم إليه فيك، أيها النخيل المتطاول في الغياب، ودع تفاحة خضراء حاضرة بيني وبينك، لنكتب سواء نظرية واقعة بين نيوتن وآينشتاين، فللجاذبية حكاية ثالثة، تقرؤها العيون المتعبة من السهر، والأهداب المغلقة من حديث الشوق، والجفون الملقاة على كاهل الليل، والقلوب التي أذاقها الحنين ويلات الفراق، وصولات السنين، ورباط الوريد للوريد مشدودٌ بأوتار عشق لا يمــوت.

بنغازي 2015

السبت، 12 مارس 2016

شعر / فاكهةُ الحرمان

فاكهةُ الحرمان




1/
حِصاني يَجولُ أفياء ذاكرةٍ مُحترقة الضوء
خيباتُ أملي تحاصرني!!
حوافرها مُحدَّبة تجذبُ أديمَ الأرضِ لِرائحةِ الْمسير،
وغربةٌ تسكنني....
تقرأُ مُعلَّقة الْوحدة على جدار روحي!

2/
الصمتُ: أحدُ عناوين أخباري...
ردودُ أفعالي: كصحراء أوهنها الترحال فوق
مجاهل وجهها!!
جُملٌ مفصولةٌ أنا، باستفهامات السكون وتعجب المآقي!
دمعتي عزيزةٌ.....
أوصدتْ أبوابها في وجه الفضول!!
والحرمانُ فاكهتي المُفضلة!!ّ

3/
الليلُ إذا دخل بابي، خلع ملابس الَّسواد،
ملتحفاً ببياضِ حزني،
وبلا ترددٍ يرميني لقميص أشواقي،
حيثُ قد يرتدُني ضوئي فيراني،
أقتبسُ منه مسيرة روح ألقتْ أسفارها فوق معراج الصفاء!
و حنيني صَّبارةً نبتتْ على عتبة شفاهي!!

4/
ضحكاتي خاويةً،
أُسرجها له فوق أصفرار أمنياتي،
أُهديه أعاصيري النَّهارية الصَّامتة،
قبلاتٌ برهانها العُجبة من زخم الكلمات،
رشفاتٍ من أحاديث السَّمر ألتقطُها باسمةً دون أن أتكلم!
وحين أتوحدُني....
يتلقفني حائط المبكى في خيالاتِ يستحي منها ظلي!
والغربةُ عناقيد عنبٍ تلتقطها روحي!!!

5/
عيناي.......
تبحثان عن وجهٍ حُرمتْ تقاطيع الزهو فيه.
مرفوداً إحساسي بلا مواربة........!
منفيةً أنا بحثاً عنه
في مدارات تعوسجتْ أمنياتها ــ فشكَّتْ أديم جراحي
غائبٌ أنت أيُّها النَّهارُ عن فجري المفقود
والوحدة تفاحتي المُفضَّلة !

 
اللوحة للفنانة التشيكلية رؤى بازركان

الجمعة، 11 مارس 2016

شعر / عن الطفلة باريـــــس !


عن الطفلة باريـــــس!





باريس على مرمى حجر، ومرمى طيش ونزق!. لباريس عيونٌ زرقاء، وشعرٌ رمادي، وللخمر على شفتيها مذاق العنب، لها قرطان متلألئان، وعنق طويل يوازي كفِّ البحر، لباريس قدمان تضربان في صحرائنا الكبرى، وسكارى ينامون في الضوء، يدقون عنق الليل بزجاجة كونياك معتقة، لها معطف فرو يتهدل بارتخاء، فوق الأكتاف المتعبة من العشق، لها نرد الشهوات، والراين ـ بطوله الفارع ـ والشرفات الفاغرة أفواهها في عيون الماء الأزرق، لها نافذة اللوفر المُطلة على العالم، وقبعة بونابرت، ومومياوات قابعة في صمت!

لباريس أجساد طرية، تتشكل كل صباح، كالخبز الفاخر، والبن المنكَّه، مصنوعةً من هوس الصلصال المجنون، تتمايل في غنج الماركات والعلامات المسجلة، لها شانيل، وبورجوا، وإيف سان لوران، وشارع إليسا حيث العشق حكاية كل صباح ومساء، لها رائحة السجائر المنطفئة بلوعة، في رماد الأجساد المحترقة غربة ً، وأجنحة من ضوء، ترفل حتى شواطيء جنوب المتوسط، تجوب الصحارى، وتلتهم في خزانتها كل المنافي.

في باريس يستيقظ الإبداع على المقص، وخياطة الفساتين، وتأليه الأجساد الناحلة، والقبعات الممهورة باسم كريستيان ديور، وينام على زجاجة عطر فرنسية، تتصدر بأشكالها الغريبة، أخبار الصحف العالمية، لا تعرف باريس السكاكين الخشنة في بلادها، ولا يحتمل دلالها أفلام الرعب الحمراء، ولا يستوعب صدرها النافر فكرة الاعتداء!

لباريس ماضٍ، حاضر الترف، كحلوى ترافل، أو سوكسيه، يرفس بقدميه حرية الشعوب، ويحتل المدن الغارقة في سبات الجهل، ليقول لها بونجور، هذا عطر فرنسي فاخر، وبعض رذاذ النازية، ثم تغرف بيديها الغضتين ما تشاء من أرواح، وتترك للإبداع مشيئته، في صنع حلوى المقاصل، والمشانق، و تشكيل عملات جديدة، و أحكام الإعدام، من فئة عرب.

نسيتْ باريس ذاكرتها ترفل، في عقول السائحين، لتمخضَ في قلوبهم حرقة وأنيناً، وتمخرَ في عباب الذكرى، صور ملايين الموتى، الذين عبرتْ ـ فوق أجسادهم ـ سيدة معطف الفراء، وريش الطاووس المنفوش، لا يمحو الشّانزليزيهْ من عقل سائح ذكرياته، ولا يمنح الإليزيه لرؤسائه سوى زهرة "لا تنْسَني".

وكعروس أوروبية تتقدمُ منصة الكهان، وتسردُ التاريخ في طرحة فستان، يقول الكاهن في قسم العروسين: لا تتركوا صبية، ولا طفلاً حياً، وإذا عاد عسكري منكم بأسير عربي، فالجلد مصيره، ويمضي مونتانياك في تطبيق الوصية الشرهة للدم، فيطلق قطعان الجنرال لاموريسيير وراء كل جزائري، ومن قبله، وراء كل عربي تعطرتْ باريس بحناء داره!

لباريس أنيابٌ دموية، تقضم الأطفال، ليسبتوا في بطنها، وللرازيا طعم الشكولا الفرنسية، ولجان سارتر قميصُ براءة أبيض ـ تلقاء كل من عذبهم غنج باريس، وهوى الطفلة المدللة، له الصوت، وله الإنسانية، وله الحقيقة التاريخية..

هوامش
- اللوفر: متحف فرنسي يعجُّ بالآثار والمسروقات التي جلبها بونابرت من مصر.
- الراين: اسم نهر فرنسي.
- شانيل، بورجوا، إيف سان لوران: علامات عالمية مسجلة لأسماء عطور ودُور أزياء فرنسية.
- إليسا: شارع مشهور في باريس أُطلق على حبيبة الشاعر لويس أراغون.
- كريستيان ديور: أشهر دار أزياء فرنسية.
- ترافل، سوكسيه: حلوى فرنسية مشهورة.
- بونجور: تحية فرنسية.
- القسم: حقيقة تاريخية حين كان لبعض الكهان دورهم في حث الجيش الفرنسي على إبادة الجزائريين.
- مونتانياك: الجنزال الفرنسي الذي له تاريخ أسود في مجازر الجزائر.
- الجنرال لاموريسيير: منفذ جرائم مونتانياك.
- الرازيا: نظام تم تطبيقه لتمويل الجيش الفرنسي من قوت أهل القري الجزائرية بعد نحرها بأهلها.
- جان سارتر: فيلسوف فرنسي له مقوله شهيرة "من يمسح عارنا في الجزائر".
- الشّانزليزيهْ: شارع فرنسي مشهور بجلب السواح له.
- الإليزيه: قصر الرئاسة الفرنسية.
لا تنْسَني: زهرة نادرة زرقاء لها عدة أسماء ويقال إن مجموعة "فرسان الهيكل" التي اشتهرت بوحشيتِها اتخذت الزهرةَ رمزًا لها ـ خلال احتلال القدس.