الأربعاء، 11 مايو 2016

اغتــراب ...










 أغترب  فوق لحاء أشجاري،   لأكمل حلمي  على جدار الخشب  ، أعلن موتي و أنا واقفة و متوحدة على جداري ، سادرةٌ في سراديب التيه ، أفتح أزرار قميصي للريح ، و أشرع نوافذ قلبي لسحب البكاء الذي لم ينته ، و أكزيما النزف التي تلاحقني ، لتكتب بخشونة وجعنا اليومي ، وتترجم خواء عقولنا ، ونزق أفكارنا ، وبشاعة ضمائرنا ، التي لم تتسع نزاهتها لكلمة وطن ..

الحظ هنا يبدأ في رفع أسعارنا اليومية أو خفضها  ، وفقاً لما يبعثه لنا من مفاجآت ،
 وطوابير الخبز تتحمل عبء البطون الخاوية ، ماضية نحو شارع آخر ، لتفتح ذراعيها للغة المحور ، الضائعة  في غياهب التيه ، هنا ترسم المعركة ديموغرافيا عجائبية ، تاركة الاعتبار  يحل محل الدهشة   ...
  الجندي الواقف عند حافة الشارع
  محل البقوليات المفتوح بجنون تحت أصوات  الرصاص
 الطفل الذي يعبر لمدرسته مُصرا على يومه الدراسي
 الرجل الذي يسير في أول الشارع فاقداً هدوئه
 السيدة التي تحاول إيقاف سيارة تقلها إلى مستشفى الولادة   
 القناص الذي يقضي وقته في ممارسة لعبة الموت على الأجساد المتحركة .

أيتها المدينة الغارقة في طين الوطن  ، و زند البندقية لا يفارق مقلتيك ، تجعلين للصيف حرارة اللقاء بالوطن ، ومذاقا مختلفا لطعمك الذي لا يبارحه البياض ، و رصيفك الذي لا يكف عن الثورة  ...ما لذي يلزمني للحلم بين ذراعيك ، لأغمر وجهي في رطوبة وجهك  ، و أجعل حنيني يتساقط أمطار شوق ، لعل دالية حلمي تمتلئ بعناقيد فرح ، تتدلى كلما ناداها مذاق الوطن لشفتيه  

تلزمني علبة تلوين ، وفرشاة ، ولوحة ترسم  أحلامي ، دون أن يصادرني حوار ساستنا المتأزم عقلياً ، أو أتعرض لقطع موارد الماء  ، أو أُفاجأً بالظلام يسدل ستائره على بيتي معلنا انقطاع الكهرباء ، أو أستيقظ على حريق عالمي لآبار النفط ، أو تلاحقني تكشيرة الموظف في الشباك ليقول لي حسابك صفر ، أو أسمع صوت هاون سقط عشوائيا فوق الحي الذي أقيم فيه .

يلزمني قانون نيوتن للجاذبية ، لأصلح ذات البين بين قطبي المغناطيس المتنازعين ، المتنافرين ، و أشرع في تدوير تفاحة أفكاري كيفما تتفق لي الشمس ، ومثلما أشتهي أن يكون قدري ، تلزمني لغة ثالثة تتفهمها العقول الخاوية التي

ترانا نتمزق ، وترانا نتآكل من الحزن ، ونتلاشى من الوجع المخيم على عراء قلوبنا ، ننتظر الوطن ، ويأبى الوطن أن يأتي ، وقد حاصره حاجز أجوف ،  سقط في الطريق  إلى  العقول  المتنافرة .



صرعات لطقس الحرية







على جفنٍ ناعسٍ ...
يخرجُ صفار الكلمات ...
من محِّ بيضةٍ بنت يومها ....
ويخدجُ الحياءُ زلال الجدار
يتسمَّرُ حجر الرشيد ، فوق ثاقبٍ لفظته
السماءُ لثغر الأرض ! 

2/
الرَّايات السُّود ترِدُ أبراج حمائم بيضاء
تنثرُ القمح سنبلاتٍ يابساتٍ ...!
تتصدَّرُ قسمات الحرية 
بوشم التَّكفير! 
قناعٌ أمام مرآة ، يُفخخ من كل فجٍ 
أعشاش الحيـــــــــــــــــــاة ! 
وعزرائيل يتمُّ تصنيعه معلباَ ـ
و أشلاء !
ترتيبٌ أجوف الخواء ......
لجنائز حافية سوداء
وببساطة يقرؤون سورة براءة  !


3/

نُرسلُ أفواج النَّعاج ...
كقطيع الموتى .....
تطوفُ شعوبها سبع مراتٍ
بحثاُ عن موسمٍ الحجِّ المزعوم 
أفواجاً يحجون للقبـــــور بلا إحرامٍ 
وبين ساعة صفاء ، وعقرب خانه التوقيت...
ثمةُ ثقوب لجيوبٍ جوفاء ....
تزدلفُ الرذيلة فوق جسدٍ يموء حتى الخرف ! 


4/
عيناي مشرعتان على نافذة الشَّمس 
مشطتُ شعري بمشطٍ أعمى  
لايرى شارات الحواجز البرتقالية بالمفارق 
كشَّرتْ أنيابه عن حريةٍ نهدها أحمر !
قميصي قُّد من دُبر حين مارستُ طقس الهواء ! 
أحمرُ شفاهي قاتم اللون ...
مزهريةُ أحلامى تغرقُ في مائها الآسن  
خدي ، يتوسَّدُ وسادة عمياء !
تتوكأ على عكازٍ ينكزُ الكوابيس السوداء
يرمي قبلات اشتهاء لطعم سنبلةٍ خضراء  !


5/
بعضُ المؤتفكات مقلوبات ٍ
بالخســـــــــــــــــــــــف  
مجدولاتٍ على ظفيرة الكذبِ ...!
تثيرُ زحام المـــدن بخزعبلاتٍ حمراء
فوق رصيف ذاكرةٍ نقيعها راكدٍ ...
عادياتٍ يتعللن الكســــــــــوف ....
قادماتٍ فوق ريح كافرةٍ بموسم المطر 
غبارها لايُبقي ولايذر....
وجهان لعملة واحدةٍ ...
إذا طارتْ لأعلى شفاه الهواء الحارة
تلقَّفها ببساطةٍ وجه الحقيقة الصَّفـــــــــــــراء 






الثلاثاء، 10 مايو 2016

تضاريسك








أهمُّ برسم الخريطة ، أصنع حدود اللوحة ، أرسم الإطار ، أبدأ في إحصاء تعاريج خطوط الطول والعرض ، يأتي وجهك على خط الاستواء ، فيشق قلبي نصفين ، من الشمال كانت كلماتي علامة تعريف الخريطة ، دوال حمراء لمناطق غير آهلة بحبي ، دوال خضراء لحريتي فيك ـ دوال صفراء تمنع الشوق من ارتكاب لوعة حنينه ، حين تلتقي كفي المشتاقة للقاء كفيك ، من الجنوب كان وجهك يرتسم كسراب ، يصعب الإمساك به ، يتراءى لي من هجير الصحراء ، ولسعات البرد تجتاح جسدي الغض .

أنا يا سيد السراب 
يا قوت السراب حين يتآكلني الحنين 

أعرف كيف أملك قوانين التيفيناغ لأتهجأ مشاعري ، مقتطفة من لكنة التوحد ، فوق تجاعيد صخور الصحراء الساكنة سكون الرحيل ، فقدت دليلي إليك حين أخذنا الوطن صحبة رحلة ضياعه ، غاص بنا في كثبان الرمل المتحركة ، ضاع أناس ، وغرقتْ قوافل الودَِ ، وقبائل الحنين  ،  كانت تقطع صمت الصحارى ، وسماء عينيك بوصلة الرحيل .

دع وجهك يحتل خارطة  حزني ، يتركني أمارس هوس فضولي  فوق خطوط طولها  
وعرضها ، أحفل بك ، كما تحفل نباتات الصبار بمرور قوافل النوق من دربها ، أشتهي أن يحملني نسيم الصحراء على كف تخضبت بشوق أعماه الصبر ، فترك الرمال الصفراء تكتب الحكاية فوق تضاريسي  ، تجعلها  ديموغرافيا أبدية ، تستمد نحتها من ملامحك ، وتجاعيدك ، تروي أيقونة  الجنوب الغائب في صمت الصحراء والسكون .



من مجموعتي  نزف الوريد الجنوبي 

ضاق أفق عيني










ألملم ماتبقى من فرح اللقاء بك ، اشتهي أن أبعثر حنيني في بقايا قارورة عطر ، أسكبها في جعبة القصائد والخواطر ، أجمع فيها ما تبقى من روحي ، أرجَّها جيدا ، ثم أضعها في أمتعة رحيلك ، لتقتفي أثرك ، قصائد مكتوبة بحروف التيفيناغ ، مكللة بأحاديثي ، وهمسي ، وهسيس بوحي ، آآآه من لهفة تحفُّ عينيك على وجدي ، تسأل متى تلتقي الكف بالكف ، والحديث بالحديث ، والحرف بالحرف ، والمحاكاة بالمحاكاة ، تترك لغة اللغة ، وتتسلل إلى جارحة الجوارح .

أجزاء مني مشتتة ، جنوب قلبي النابت في جيد خيلائك ، وشمال عيني الناهض من فورة العنف ، وشرق قلبي الباحث عنك في اعتصام الوطن للوريد النازف من شريان الوطن .
تعال أيها المنفي في بضع كلمات ، من أقصى القلب ، إلى أقصاي ، من نزف قصيدة ، إلى شساعة خاطرة ، من بوح الروح إلى اختزالات الكلم .

أيها المدسوس بين وهج القوافي ، و أنحاء الفيافي الواسعة ، يا سيد الغياب ، و أسير الشوق لا تبتعد ، فقد ضاق أفق عيني بدونك .


من مجموعتي نزف الوريد الجنوبي .

الثلاثاء، 3 مايو 2016

الحارس








في الليل يبدأ في نزع فتيل النهار المشتعل داخل مسامات جلده ، يتجرد من ثيابه الثقيلة ، ينزع حذاءه المثير للضجر ، يغتسل من هموم الظهيرة ، و أخبار الصحف ، و أحاديث القنوات ، ثم يخصف عليه دثاراً خفيفا من التفاؤل للتغيير .


لا تتغير نكهة الأسئلة ، المعبأة في ركوتها المجنونة ، إذ لا يخفف من تزاحمها داخل رأسه ، سوى الوقت الذي يمنحه عقله لموت الانتظار ، بين استفسار و آخر ، يستغرق في الغياب ، يسرد أشياء الوجع في مصفوفة عجيبة ، تتداعى خطوطها أمامه ، دون أن يتورع عن نزع لبِّ الحكمة من نخاع المعنى ، أو يتأخر في اعتصار ماء العترة من رحم الغيمة ، إنها حكمة الشيخ والبحر ، الذي وهبه الوقت ، فأعطاه الوقار ، و لذة استنباط المعنى .                                                                                             


يذهب النهر للبحر كل الوقت ، يفرغ حمولته من الماء ، وهو مستمر في الاندفاع نحو الاتساع الوجودي الكبير ، غير آبه بعصف الريح على وجهه الرمادي ، و لا بأحمال السفن فوق ظهره ، ولا بأعباء الأقدام بين حناياه ، ومثل رحلة وحيدة ، خالية من مسافريها ، يظل يعرج ويتلكأ ، ينادي على مواعيد لم يحن وقتها ، و أسماء لم تعد في الوجود ، وقائمة موتى تطول في تزايد عجيب ، تكتظ ، تتزاحم ، تملأ مساراته بمختلف الأعمار ، يجرفها نحو العمق ، ليغمرها في رطوبة الأرض ، ثم يتناساها وجه الطين .


كفزاعةٍ في حقل ، يبدأ نهاره قرب باب المقبرة ، يسقط أسيراً للأعين الحزينة ، التي اغتالها وجع الليل بأخبار المغادرة والفقد ، يأخذ الدمع مجراه اليومي كالنهر ، مُوغلاً في حفر أخاديده فوق تجاعيد وجهه ، تعبر الأجساد الحاضرة بابه ، وتعبر معها الأطياف التي انطفأ ضوؤها ، يشارك في طقوس الصلاة ، والدعاء ، والبكاء ، حتى يتوارى الصلصال الطري تحت الثرى ، حينها يتهيأ له أنه سمع أصوات الصراخ في المستشفى المقابل للمقبرة ، معلنةً عن ولادات جديدة ، مقابل وفيات غادرت لا تلوي على حياة !



يمضي به اليوم كبضاعة كاسدة في زمن مهجور ، يحرس صمت الموتى ، ويستمع لعتاب الزائرين فوق المراثي الملقاة على كاهل التراب ، ينشر بياض حزنه أزهار ياسمين ، فوق أكتاف الشواهد البيضاء ، المختبئة من لسعات البرد ، المتدفئة في غرابة العزلة ، وسكون المكان المهيب ، إنه كزيت من الوجع الأليم ، تقرَّر له يومياً أن يطلي به محياه ، ليزداد يقينا بأنه يقف على الطريق العالق بين رصيفين ، أحدهما يبدأ به رحلة العبور ، والآخر ينتهي به المطاف إلى جدار لا رجوع منه .

عزة رجب .

(زيت الوجع الأليم ــ عنوان لمقال للدكتور نجيب الحصادي )

الاثنين، 2 مايو 2016

قبل أن يغادرنا الوطن ..




عندما أحببتك ...
كان الشتاء نائماً بين أحضانك 
والسماء في مخاض المطر 
و العالم مشغولٌ بزراعة قبلات النهار 
على مُحيا الليل !


وكنتُ أتساءل هل ستغيم السماء بعد مواسم الحرث تلك
وتنفجر الأرض بالمزيد من فوشار الفرح ؟


أنا يا حبيبي 
أعشق شكل الأرض المربع ...
الذي ألهمني أن النسبية هي الزمن النائم بيننا 
حين لم نتقابل بعد ....
و أن المسافة بين تنهيدة شوق 
ولهفة حنين ...
تترسب في ابتسامة صبر فوق جبين الانتظار !


لا تدعني أتلكأ في يومي 
حين أستيقظ و أنا مشغولة بالبحث عن فنجان قهوة 
لمجنونة إفطارها شعر ..
و قصائدها أنت ...
ونصوصها غياب يمخر في رحلة بحث ٍ 
عن شيخ البحر ....
و أحدب نوتردام ..
و أليس في بلاد العجائب !


هذا الصباح أعرجٌ مذ أطل من نافذتي 
تسربتْ أخبار الجنود إلى مزاريب المياه 
وصاحت الأرض بأسماء الشهداء ...
وفتحت المقبرة ذراعيها في حفاوة وتكريم !

يقولون أن السماء كانت بيضاء يوم استشهادك .
يقولون أن رتلاً من الملائكة كان يجتاح الأرض .
يقولون أن أصوات الرصاص توقفت في بنغازي .
يقولون أن الوطن وقتها كان فوق منصة المزاد العلني .
يقولون أنك أفسدت المزاد .....
وغادرتْ قبل أن يغادرنا الوطن !!


عزة .
من نصوصي : قبل أن يغادرنا الوطن !
أهديها لكل من فقدت شهيدها وحبيبها ..
شهيدته وحبيب 

الأحد، 1 مايو 2016

الجزء الباقي من ظلي





;كل الحب لحانة تنجبُ بطلاً في الحرب ، أو فنانا يرسم بريشته أوجاع بلاده ، أو موسيقار  يعزف ألحان الألم على سلم صول ، فيترجم سيفمونية إبداعه طرباً ، أو مخترعاً لمصباح أضاء بنوره العالم .

الحانات تاريخ مجاهد في سيرة الشعوب الذاتية ، إنها تبعث من رحم الفقر نوراً للكون ، ترسل شارات عبور لشعوبها نحو مسيرة الشمس ، الحانة أمٌ بطلة ، أذاقت أطفالها لوعة الوحدة ، ونكاية الوجع ، و قذارة المجتمعات ، حين تلفظ أنفاس أبناءها لطاحونه البكاء اليومي ، لميقات غير معلوم من مستقبل مجهول ، الحانة عجوز شمطاء ، حكيمة بالقدر الذي يجعل رحم المعاناة يُلقي بأطفال التجربة ، إلى معترك لابد منه ، ، لم تتخل الحانة عن واجبها الوطني تجاه البلاد ، لم تخذل التاريخ في صناعة قرار !


للحانة فلسفة لحزن ما ، قد تكتبه عاهرة تمنح سعادتها لغيرها ، لكنها لا تمنح الموت المجاني كالذي يأتي إلينا من كل حدب وصوب ، فالفرح ينتج أبجدياته من رحم البكاء ، وليس له طريقة أخرى كي يكون وليداً ، حياً ، ناضجاً ، إلا أن يمر عبر أيقونة الفقد ، والوحدة ، والعزلة ، وشيء من الإنكســار ,وضنك العيش .

في فلسفة ريكور ثمة ما يدلي به ذلك الرجل المختبيء من ألم الناس ، البعيد عن سلطة الانكشاف ، الباقي تلقاء السكون ، وقبالة النوافذ المقفلة ، الفاهم لحكاية الظل ، يقولون أنني وحيدة ، أو لعلي مريضة مثله ، أبتسمُ حين تدعي رفيقاتي ذلك ، ريكور كان يستمع لصوت العتمة ، يطلق عنان مخيلته للريح ، يُسابق كلمات هيجل ، ويعيد ترتيب الحياة وفق سؤال دريدا ، لكنه حين يكتب يترك للإجابة حرية إطلاق ساقيها للريح ، تهرب في الاتجاهات الأربعة ، تطير فوق أرض خياله ـ وخصوبة فكره ، ثم تجعل حبل أفكاره يتدلى فوق مقصلة العقل البشري ، يعيد قراءة الوجع ، يجعل شعوره باليتم ، بالفقد ، بالوحدة ، بالعزلة ،   ينجب زهرة ،   أو يقوده إلى  زرع زيتونة في بستانه المهجور ، أو صبَّارة تتسلق لأسوار الخارج .                                                                       
  

لم أسأل مرة على منهج ريكور "كيف ، ولماذا ؟ الجواب دائماً كان حاضراً يتقمص سبابة السؤال ، يؤشر على جهوزية الإجابات ، و الحياة دائماً كنافذة مشرعة ، على نوافذ الإجابة ، عندما يقتلنا ورع الإجابة ، وصدام الواقع ، السياسة أفسدتْ العالم ، و أبناء القصور استطاعوا إنجاب كمٍ هائلٍ ، من الأمراء البشر ، لكنهم لم ينجبوا إنســاناً له قلب ، انتشل الإنسانية من مستنقع الدم ، ووحل الاقصاء ، وفداحة تبادل وجهات النظر الرمادية ، وبشاعة الوجه الآخر للأنظمة العالمية ، إنها مجتمعات سياسية آسنة ، راكدة في
الدم الأحمر ، شرهة للأنا ، متعطشة للسيطرة والسلطة .

دعوني أنا والجزء الباقي من ظلي ، كوردة ٍ أعيش في حصوني ، وقلاعي العتيدة ، ترون أشواكي ، وتطالكم سلاطة لساني ، ولكن ثقوا أنني ابنة حانة ، وفتاة الحي البنغازي ، المتوسط ، الحي الذي صمد تحت راجمات السياسة الليبية   القاتلة ، التي تعيش إلى حد الانغماس في حالة العمى المعرفيّ والفكريّ وجهة نظر واحدة ، إما أن تكون أو لا تكون .                                   


سأظل أسأل مثل ريكور ، عن (كيفنا ، ولماذانا ) نحن هكذا ، لم نستطع أن نطلق سراح طفل إلى حقول  الأمل ، أو نجعل فلاحاً يسعد لأن أسنان محراثه تتهيأ لطمر بذور القمح في رحم الأرض  ، أو نجعل  طالباً جامعياً يمضي إلى كليته ، وهو يتمنى أن يقدم شيئاً عظيماً ، يختلف عن أطفال الحانات العظماء ،  بعد أن ثار و أزاح من طريقه عقبة أحلام الحياة ، أو نجعل حالمة مثلي تكتب روايتها بشكل متصل ـ دون أن تضيع في سرد فصول طويلة من الأسى المتجدد كل صباح بنغازي                                                                          
لقد زاد عددنا نحن سكان المدارس ، و نزلاء الفصول المدرسية ، أصبحنا كلنا رواد المقاهي الماضية في طرح السؤال ، عشاق لرواية البؤساء ، الباقية بقاء الاختلاف في الحوار ، السائرة نحو مجلدات من أسماء الشهداء ، الواقفة على ركام المباني ، والأحلام الزائلة ، كلما طالها وجع القذائف العمياء ، كم تبدو هذه السياسة امرأة ساقطة ، أو عاهرة ، تمنح الكل آمال البقاء على ذمة حنكتها ، ثم ترمي بهم في قاع قذارتها .

كيف أحافظ على السؤالين الفتاكين لريكور ، دون أن يخذلني وجهي ، حين أطرحهما عليه ، و أنا ممتلئة بوجعي ، نازفة من شريان الفقد ، إلى وريد الوحدة ، أنكفيء في رحلتي ، و أرى كل شيء كيف يمضي ، و إلى أين يَُفضي ، يبقيني هول الإجابات مُسمرة مكاني ، مشدوهة من عيون السؤال المفتوحة على مصراعيها ، وبلا سيناتي ، وتسويفاتي  ،أظل أنتظر في حانتي المُظلمة، بانتظار ضوء الصباح ، يروقني خبز أيامي ، وقناعتي بأن الإنسان ينتصر .....حتما ينتصر.